عقدان على الديمقراطية وما زالت حرية الصحافة قيد التهديد

مجتمع مدني متماسك وتحسينات في التعليم وزيادة الدعم الدولي لوسائل الإعلام ستفتح المزيد من المجال لحرية التعبير وستساعد في تعزيز الانتقال الديمقراطي في العراق

خلال الاحتفال بيوم الصحافة العراقية الخامس والخمسون بعد المئة، تحدّث رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بفخر عن ’عدم وجود معتقلٍ أو سجين رأي صحفي‘، وهو أمرٌ ربّما ردّده أسلافه أيضاً، في تجاهلٍ لضحايا الرأي ممن قتِلوا أو غُيّبوا أو فرّوا من البلاد، أو اكتفوا بالصمت المرير. فاليوم، وبعد مرور أكثر من عقدين على التغيير السياسي والتحول نحو الديمقراطية، لا زال العراق في المرتبة ١٦٩ في مؤشر حرية الصحافة، وهي مرتبةٌ متدنّية لم يتطّرق إليها رئيس مجلس الوزراء في كلمته التي ألقاها في الاحتفالية.

تراجع الحريات

لم تشهد السنوات الأخيرة تقدّماً يذكَر في حرية الصحافة في العراق، بل والحريات بشكلٍ عام، وربّما يلاحَظ بأنها وعلى العكس، قد شهدت تراجعاً تجلّت ملامحه في استمرار العمل بالقوانين الموروثة التي تدين المنتقدين والمعارضين وتفرض رقابةً مشددّةً على صنّاع الرأي والصحفيين، في تجاهلٍ للمعايير الدولية لحقوق الإنسان وحرية التعبير.

لقد رفضت الجهات المعنية المطالب المتكررة بتعديل بعض المواد أو تعطيلها، خصوصاً المادة ٢٢٦ من قانون العقوبات العراقي لعام ١٩٦٩ المعدّل المتعلّقة بإهانة السلطات، والأمر سيّان بالنسبة للمادتين ٤٣٣ و٤٣٤ المتعلقتين بالسبّ والقذف والتشهير. وفي الآن ذاته، بقيت القوانين الداعمة للحريات مثل قانون حق الحصول على المعلومة قيد المراجعة والتأجيل، في حين استمرّ السعي لسنّ قوانين مناهضةٍ لتلك الحريات مثل قانون جرائم المعلوماتية وقانون التظاهر السلمي.

ومن جهةٍ أخرى، فقد أدّى تنامي الجماعات المسلحة إلى المزيد من التضييق على حرية الصحافة، عطفاً على الدور الذي لعبته تلك الجماعات في تنفيذ عمليات اعتقال خارج إطار الدولة، بالإضافة إلى عمليات الاغتيال والاختطاف والتغييب القسري التي يعتقد على نطاقٍ واسع بأنها مرتبطةٌ بالأجنحة العسكرية التابعة لحركاتٍ وأحزاب سياسية مشاركة في السلطة.

يمكن القول أيضاً بأن الأمر سيّان في إقليم كوردستان العراق، إذ أدّى فشل الأحزاب الحاكمة في تأصيل مفاهيم الحرية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، إلى فرض المزيد من التقييد على حرية الصحافة في الإقليم.

أسبابٌ وتراكمات

لم يحدث هذا التراجع من فراغ، إذ يعود هذا “النكوص الديمقراطي” إلى العديد من العوامل المتداخلة وتراكماتها منذ تغيير النظام في ٢٠٠٣. لقد تبنّت الطبقة السياسية التي تولّت مقاليد الحكم آنذاك وكما كان حريّاً بها، خطاباً يروّج لمفاهيم الحرية والديمقراطية، إلا أن الأمر لم يستمر واتجهت تلك المفاهيم إلى التراجع أو ما هو أسوأ: الادّعاء بها دون تنفيذها. وهنا لا يمكن تجاهل الدور السلبي الذي لعبه الاستقطاب الديني والمذهبي في توهين مفاهيم الديمقراطية في النظام الجديد. ترافق هذا الاستقطاب مع ضعف الوعي الديمقراطي لدى الجماهير التي عاشت ردحاً طويلاً من الزمن تحت نظامٍ شموليّ وضع حواجز قاسية أمام الصحافة وحرية التعبير.

ربما كان الحال ليختلف إيجاباً لو نالت الديمقراطية الناشئة في العراق دعماً دولياً أفضل، لكنّ الأطراف الدولية تعاملت ببراغماتيةٍ بحتة مع التجربة العراقية، دون مراعاةٍ لطبيعتها المختلفة وإمكانية تأثّرها بطبيعة الأنظمة المحيطة بها والتي توصف غالباً بكونها ’أنظمةً دكتاتورية‘. فاقمَ تأثر العراق بتجارب الدول المحيطة من حالات استهداف صنّاع الرأي والصحفيين وتقييد حريتهم أسوةً بما يحدث في تلك الدول.

وبالعودة إلى الصعيد الداخلي، فقد أدّى تراجع مستوى التعليم وضعف مخرجات كليات العلوم الإنسانية، إلى تفاقم سوء وضع الحريات في العراق، فلطالما عُدّت تلك الكليّات المصنع الأساس للطبقة المفكرة. يمكن القول اليوم بأن انحسار تلك الطبقة وعزلة ما بقي منها أدّى لعلاقة مشوّهةٍ بين الطبقة السياسية والطبقة الأكاديمية والبحثية، علاقة تخادمٍ تقوم على الولاء والمنفعة عوضاً عن المشورة والنقد.

الحفاظ على ما تبقّى

قد تتسبّب الرغبة القائمة لدى أحزاب السلطة في تكريس المزيد من الصلاحيات بأيديهم، بتقويض ما وصِف سابقاً بـ “المكتسبات الديمقراطية”، وذلك الوصف إن صحّ فهو لا يدلّ إلا على مكتسباتٍ محدودة تتآكل شيئاً فشيئاً بفعل اشتداد الصراعات الداخلية بين القوى السياسية وما يرتبط بها من فصائل مسلحة.

ممّا سبق، يتضح بأن صحفيي العراق يعملون في بيئةٍ محفوفةٍ بالمخاطر، إذ يسهل وفق القوانين الموروثة، تصنيف أي مقالةٍ أو تدوينةٍ أو حتى خبر بوصفها تهمة مباشرة تضع كاتبها تحت طائلة أحد القوانين الموروثة، والتي تميل السلطات لاستخدامها كلما دعتها الحاجة لتكميم الأفواه، سيّما في ظل عدم وجود قوانين تلزم المؤسسات الرسمية بتسليم البيانات والمعلومات المطلوبة للصحفيين، ممّا يضطرهم للحصول عليها من مصادر قد توصَف بأنها ’غير موثوقة‘.

إنّ من شأن وجود مجتمعٍ مدنيٍّ متماسكٍ تعزيزُ الحريات العامة وإعطاء مساحةٍ أكبر لحرية التعبير بما يضمن وجود صحافةٍ مستقلةٍ قادرةٍ على أخذ دورها كـ ’سلطة رابعة‘، كما أنه سيساعد صنّاع الرأي على تخطي التحدّيات القائمة كالاستهداف الأمني والنقص التشريعي، ومواجهة مساعي الأحزاب النافذة لشراء ذمم بعض من المحسوبين على المجتمع المدني والصحفي. لتحقيق هذه الأهداف، يستند المجتمع المدني في العراق اليوم على الروح الاحتجاجية في مواجهة حداثة التجربة وقلة الخبرات القيادية، والافتقار للأدوات والدعم الدولي الكافي.

وعلى النقيض من حداثة المجتمع المدني، فقد غدا المستقلون من الصحفيين والصحفيات في العراق متمرسين في الإفلات من الملاحقة، عبر تجنّب الإفصاح عن أسماء الأحزاب والميليشيات والشخصيات في نتاجاتهم الصحفية، مكتفين بذكر صفات وملامح تلك الشخصيات والجهات. وربما مال بعضهم إلى المغامرة في بعض الأحيان بالنشر في وسائط إعلامية تعمل من خارج العراق مقتربين من بعض الخطوط الحمراء التي تفرضها عليهم قيود الصحافة في العراق، على أمل أن يساعد ذلك في إبعادهم عن دائرة الخطر.

وممّا يجدر ذكره الدور المحوري الذي لعبته المنظمات الدولية في تمويل بعض وسائل الإعلام المستقلة واستدامتها، وأن قلّ عددها عن اللازم. تكافح هذه الوسائل ووسائل أخرى ما زالت تفتقر إلى التمويل، لتحقيق القدر الأدنى من الصحافة الحرة، في مواجهة تغوّل الإعلام المدعوم من جهاتٍ نافذة. هذا الكفاح هو ما يضمن استمرار الصحافة الحرة في العراق، الركيزة الأساس لأي نظامٍ ديمقراطي.

ختاماً، يجب تذكير المجتمع الدولي بمسؤوليته في رعاية الحريات الناشئة ضمن التجربة الجديدة التي شارك ذلك المجتمع في بنائها، إذ يتضافر كل ما ذكر أعلاه مع إرث الدكتاتورية الثقيل وطبيعة الاقتصاد الريعي، في وأد تجربة الديمقراطية العراقية وما تنطوي عليه من حرية التعبير.

ربما يجدر بالدول الداعمة للديمقراطية العودة إلى تحمّل مسؤوليتها تجاه التراجع المريع للحريات في العراق، من خلال دعوة السلطات العراقية أجمع، إلى تحسين البيئة القانونية والتشريعية، ووضع حرية التعبير كشرطٍ أساسي لتطوير العلاقات وإبرام العقود وتقديم القروض والتسهيلات الأخرى. ربما يُتوقّع أيضاً من الأطراف الدولية إقامة محافل مشتركة تحضرها الأطراف الصحفية وصناع السياسات وممثلين من مختلف السلطات والجهات للاطلاع على التجارب الناجحة ومناقشة فرص توسعتها واستدامتها.

ذه المقالة جزء من سلسلة مقالات ينشرها تشاتام هاوس وتهدف إلى تقديم رؤى متعمقة عن المجريات الداخلية للحكومة العراقية وتقييم ما يمكن للتطورات الأخيرة – المعلنة وتلك التي وراء الكواليس – أن تكشف عنه بشأن آفاق الوصول إلى دولة عراقية أكثر استقراراً وازدهاراً وخضوعاً للمساءلة.

وهذه السلسلة جزء من مسار العمل في الاقتصاد السياسي للإصلاح، ضمن إطار مبادرة العراق في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي يقودها مدير مشروع المبادرة الدكتور ريناد منصور.