كلما أسرع النظام الجزائري في إدراك الحاجة إلى التغيير الديمقراطي ، كان ذلك أفضل له. وإلى ذلك الحين قد يكون هناك حَراك آخر يلوح في الأفق.
بعد مرور أربع سنوات من بدء الحَراك الاحتجاجي في الجزائر، يسود شعور من اليأس وانعدام الأمل بين العديد من الجزائريين. ويمكن القول إن الحراك فشل في تحقيق هدفه النهائي المتمثل في وضع حد للحكم العسكري وبناء نظام ديمقراطي جديد يقوم على سيادة القانون واحترام الحريات الفردية والجماعية.
كان الحراك الذي بدأ في شباط/ فبراير 2019 كسلسلة من الاحتجاجات المعارضة لطموح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الترشح لولاية رئاسية خامسة قد اكتسب زخماً وتطوَّر إلى حركة واسعة النطاق تطالب بتغيير سياسي حقيقي. ولئن كان الحَراك قد نجح في إزاحة بوتفليقة من السلطة، إلّا أنه لم يتمكن من إطاحة “السلطة” والشبكة الغامضة من النخب العسكرية والسياسية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال، وإن كان ذلك مع بعض الفروقات.
تشبه “الجزائر الجديدة” التي نادت بها حكومة العهد الجديد إلى حد كبير تلك القديمة باستنساخها الاستبداد الانتخابي والمحسوبية و نمو ضعيف للاقتصاد والفساد. لكن الجزائر الجديدة أكثر قمعاً من القديمة. لقد كان رئيس الجزائر الجديد عبد المجيد تبون رئيس وزراء في عهد بوتفليقة وتولّى السلطة بعد الانتخابات المطعون فيها التي أمرت بها القيادة العسكرية، واتسمت رئاسته بتدهور الحريات المدنية والحقوق السياسية، إذ تعرّض مئات من الناشطين والمعارضين والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان للمضايقة أو أُلقي بهم في السجون.
ويرجع فشل الحراك في إحداث انفصال جذري عن النظام السياسي إلى تضافر عوامل عدة من بينها طبيعة النظام الجزائري القادر على الصمود، ولكن أيضاً بسبب عدم قدرة الحراك على إنتاج قيادة تمثيلية قادرة على التفاوض بشأن شروط الانتقال السياسي.
حركة بلا هيكل
على الرغم من محاولات العديد من المبادرات الشعبية هيكلة الحراك إلّا أنه بقي أفقياً إلى حد كبير وبلا قيادة وبدون تنظيم قادر على تحفيز عدة ملايين من الجزائريين الذين خرجوا من أجل التغيير الديمقراطي. ويندرج الحراك ضمن ما يصفه يورغن هابرماس بالحركات الاجتماعية الجديدة (NSMs)؛ وهي الحركات التي تفتقر إلى القيادة المركزية وتحفزُها قضايا التمثيل والشرعية والمساءلة.
وقد برزت مسألة التمثيل بعد فترة وجيزة من بدء احتجاجات عام 2019 من خلال النقاشات بشأن الأسس الموضوعية لتعيين الأفراد و/أو المنظمات لقيادة الحراك. إلّا أنّ عقداً من العنف الذي جرى في التسعينات، وانتشار المحسوبية وتعطيل النشاط السياسي في ظل حكم بوتفليقة الذي دام 20 عاماً، جعلت المجتمع المدني في الجزائر يفتقر إلى الهياكل التمثيلية اللازمة لترجمة مطالب الشعب.
وقد رفض الحراك الأحزاب السياسية برُمّتها من خلال شعار “يتنحاو قاع” (فليذهبوا جميعاً)، في إشارة إلى الرغبة في الانفصال عن النظام السياسي القائم. ويمكن إرجاع انعدام الثقة في الأحزاب السياسية إلى التاريخ السياسي للبلاد الذي يحفل بالعديد من حالات اختراق النظام للأحزاب السياسية واحتوائه المعارضين. وكان المتظاهرون ينظرون إلى كلّ من الأحزاب المؤيدة للسلطة، مثل جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، وأحزاب المعارضة مثل حركة مجتمع السِّلم الإسلامية وحزب العمال اليساري، بكونها جزءاً من النظام، وبالتالي فإنهم يتحملون المسؤولية عن مشاكل الحكم المستشرية في البلاد.
وفي الوقت نفسه، تكافح المبادرات السياسية الجديدة لاغتنام الزخم. وقد حاولت جميع المبادرات التي تقودها منصات مثل الميثاق الديمقراطي البديل و نداء 22 ومنظمات حقوق الإنسان والنقابات والروابط الطلابية التوصل إلى وضع خريطة طريق لفترة ما بعد بوتفليقة. إلا أن هذه المبادرات واجهت مجموعة من التحديات مثل صراعات السلطة الداخلية والانقسامات الأيديولوجية، وخصوصاً بين الجماعات الإسلامية/المحافظة والقوى الأكثر علمانية/التقدمية.
كذلك كان القمع الذي تمارسه الدولة سبباً رئيساً وراء الفشل في ترجمة مطالب الحراك إلى مبادرات سياسية منظمة، فقد حاولت السلطات الجزائرية سحق المعارضة من خلال إغلاق الجمعيات والأحزاب ووسائل الإعلام الناقدة واعتقال أكثر من 300 ناشط مؤيد للحراك بتُهم ملفَّقة. وكما هي الحال في أي مكان آخر، ساعدت جائحة كوفيد-19 في استعادة النظام لقبضته الاستبدادية. وجرّاء افتقاره إلى الهيكل، أصبح الحراك محصوراً في منصات وسائل التواصل الاجتماعي وهُزِم في نهاية المطاف.
العودة المتذبذبة إلى السياسة “الطبيعية”
غير أنّ الأمل في التغيير الديمقراطي لا يزال حياً، كما أنّ التركيبة الجديدة للنظام هشة وهي محطّ احتجاج داخلي وخارجي على حد سواء، ومع مرور الوقت فإن النظام يستهلك أي شرعية متبقية ما زال يمتلكها.
كان إصلاح المؤسسات، من الرئاسة إلى المجالس المحلية، حجر الزاوية في استراتيجية بقاء النظام الذي زعَم من شأن هذه العملية أن تضع حداً للفساد وسوء الإدارة. ومع ذلك، لم تتجاوز نسبة الإقبال في الانتخابات الرئاسية التي جرت في كانون الأول/ديسمبر 2019 والتي أتت بالرئيس تبون إلى السلطة 39 في المئة، وهي أدنى نسبة مشاركة في تاريخ البلاد. كما اتسم الاستفتاء الدستوري لعام 2020 والانتخابات التشريعية والمحلية لعام 2021 بانخفاض كبير في نسبة المشاركة. في سياق من القمع وغياب الوسائل المتاحة للمواطنين للتعبير عن السخط، أصبح الامتناع الواسع النطاق عن التصويت عملاً من أعمال التحدي.
وفي الوقت نفسه فإن المشهد الاجتماعي-الاقتصادي في البلاد مشهد قاتم، وفي الأشهر الأخيرة، شهد الجزائريون ارتفاعاً كبيراً في معدلات التضخم والبطالة. ولم يتحقق الوعد القديم بالتنويع الاقتصادي بعيداً عن النفط والغاز، الأمر الذي ترك الملايين من الجزائريين عاطلين عن العمل. وقد سجّلت أسعار النفط المزدهرة في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا متوسط سعر قدره 100 دولار أميركي لبرميل مزيج الخام الصحراوي على مدار عدّة أشهر، ما ساعد بلا شك في تخفيف الضغوط الآنية. لكنّ هذا لن يكون كافياً لمنع تدهور مستويات المعيشة في الأجلَين المتوسط والطويل بدون إجراء إصلاحات هيكلية.
بيد أنّ ضعف الشرعية الممنوحة لمؤسسات ما بعد فترة الحراك يجعلها مفتقرة إلى القدرة على إدخال مثل هذه الإصلاحات. فقد عجزت الحكومات المتعاقبة عن الوفاء بالتزاماتها وما أجرته حتى الآن مجرّد إصلاحات سطحية، في حين أنّها تواصل تأجيل التغيير الشامل والطَموح.
وإزاء مشهد يتّسم بتزايد الفقر والممارسات الاستبدادية، خاطر العديد من الجزائريين في ركوب البحر الأبيض المتوسط متوجّهين إلى أوروبا في رحلاتٍ قد تنتهي بالموت. وكان صيف عام 2021 أحلك صيف على الإطلاق للمهاجرين الجزائريين، أو ما يُعرف محلّياً باسم “الحرَّاقة”. ووفقاً للسلطات الإسبانية، وصل 9,664 جزائرياً إلى الساحل الإسباني بين كانون الثاني/يناير وتشرين الأول/أكتوبر 2021، أي بزيادة قدرها 20 في المئة عن العام السابق.وفي حين يتمكن البعض من الوصول إلى أوروبا بأمان، فإن العديد منهم يقضون في الطريق.
في نهاية المطاف، فإن من الوهم الاعتقاد بأنّ مجموعة سكانية شابة ومتعلمة ومترابطة رقمياً ستقبل بأن تقودها قيادة سياسية بالية أثبتت على نحوٍ مستمر عدم كفاءتها لضمان الحقوق السياسية و تحقيق التنمية الاقتصادية والحكم الرشيد. لقد أعرب الجزائريون بما لا يقبل اللبس عن تفضيلهم لنظام ديمقراطي، وهو أمر يتطلب إعادة صياغة قواعد اللعبة لإعادة توزيع السلطة السياسية من المؤسسة العسكرية إلى الشعب. وكلما أسرعت السلطات في إدراك الحاجة إلى التغيير والانخراط في حوار موسّع لصياغة انتقال سياسي سلمي، كان ذلك أفضل. وإلى ذلك الحين قد يكون هناك حَراك آخر يلوح في الأفق.