عنف الشرطة: النساء والمساءلة في العراق

  • إلهام مكي حمادي

    Researcher and activist with a PhD in Anthropology

    باحثة وناشطة حاصلة على الدكتوراة في الأنثروبولوجي

يُعَدّ العمل الشرطي من بين الجوانب المهمة ولكن المهملة لمشكلة الجندر في العراق، إذ لا يزال هناك نقص في المساءلة وعوائق تحول دون الإصلاح.

في الآونة الأخيرة، أثير جدلٌ حول مسألة “الجندر” أو النوع الاجتماعي في جميع أنحاء العراق مع تنديد شخصيات سياسية واجتماعية مؤثرة بما زعمت أنها أجندة “غربية” تهدد قيمها الثقافية والاجتماعية والدينية. ففي التاسع من شهر آب/ أغسطس، أصدرت هيئة الإعلام والاتصالات الحكومية تعليمات لجميع وسائل الإعلام وشبكات الاتصالات بحظر استخدام مصطلح “الجندر”. ويمكن اعتبار هذا الإجراء بمثابة رد فعل غاضب على المجتمع المدني وضدّ تركيز تمويل المانحين الأجانب وآليات البرامج على مسألة الجندر.

ويجادل العديد من أولئك الذين يعارضون ما يسمّونها “المؤامرة الجندرية” بأنها مؤامرة أجنبية هدفها جعل مكانة المرأة في المجتمع أعلى من مكانة الرجل. إلّا أنّ الأعراف الأبوية تُلحق الضرر بكلّ من الرجال والنساء وتعزز السلوكيات العنيفة التي توثّر على الحياة اليومية للنساء والرجال العراقيين على حد سواء. وتتجلّى هذه المسألة في أوضح صورها في العمل الشرطي في العراق.

نمط من العنف غير المتناسب

في تموز/ يوليو 2023، جرى تداول مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي العراقية يُظهِر شاباً يتعرض للضرب على أيدي ثلاثة رجال شرطة في محافظة نينوى. ولولا تصوير ما جرى بالكاميرا، لمرَّت هذه الحادثة من دون أن يلاحظها أو أن يحاسَب عليها أحد. وكعادتها برَّرت قيادة الشرطة في المحافظة الاعتداء وادَّعت أن الحادثة كانت نتيجة لسلوك “عدد قليل من العناصر غير المنضبطة” ولا تعكس قيم وزارة الداخلية.

ولكن بالنسبة إلى العراقيين فإن هذا النمط من العنف غير المتناسب لا يبدو خارجاً عن المألوف. فخلال احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019، كان العنف والاستخدام المفرط للقوة من قِبل قوات الأمن والشرطة ضد المواطنين العراقيين في منتهى الوحشية، وتسبَّب بمقتل أكثر من 500 متظاهر، بينما أصيب آلاف آخرون بجروح خطيرة خلال الأسابيع الأولى من الاحتجاجات. ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة، فقد أُغلقَ معظم هذه الحالات دون محاسبة الجناة.

تقع على عاتق قوات الشرطة العراقية مسؤولية إنفاذ القانون وحِفظ النظام والسلامة العامَّين. وبذلك، تكون لدى الشرطة سلطة استخدام القوة في التعامل مع مرتكبي الجُنَح أو الجرائم. إلّا أن قوات الشرطة تسيء استخدام سلطتها بشكل منهجي. وفي الواقع، في المقابلات التي أجريت مع ضباط الشرطة، جادل كثيرٌ منهم بأن استخدام القوة “ضروري” أثناء تحقيقاتهم. ولم ينفع إنشاء قوات أمنية جديدة لمنع العنف والتعذيب أثناء الاعتقالات والاستجواب كبديل لجهاز الأمن القمعي للنظام السابق كثيراً في التصدي لهذه المسألة.

تختلف أساليب العنف والتعذيب التي يمارسها أفراد الشرطة ضد النساء والرجال، فهي تتأثر بتصورات القوالب النمطية الجندرية. فالهدف من العنف ضد الرجال هو الإذلال وإظهار الهيمنة الذكورية، أمّا سلوكيات العنف ضد النساء فسببها السلوك الجنسي الصريح وهي ترمي إلى إظهار التفوق الذكوري على جنس الإناث وترسيخ علاقات القوة.

انعدام المساءلة عن عنف الشرطة

من الصعب الحصول على بيانات توثّق العنف القائم على النوع الاجتماعي ضد المرأة في مراكز الشرطة ومراكز الاحتجاز في العراق. ويرجع ذلك أساساً إلى عدم الاعتراف بهذا السلوك على أنّه عنف أصلاً، كما يُردُّ إلى ضعف آليات المساءلة داخل مؤسسات الشرطة عن الانتهاكات المرتكبة في حقّ المحتجزين، بما في ذلك التعذيب. كذلك فإن فكرة إخضاع قوات الشرطة للمساءلة الخارجية بعيدة كل البعد عن مواقف صانعي القرار بشأن هذه المسألة.

ولا يتعلق الأمر فقط بما يفعله عناصر الشرطة بمفردهم؛ بل يتعلق بفشل منهجيّ واسع النطاق في التحقيق في الانتهاكات أو معالجتها في الحالات التي تشمل التحقيق مع النساء. وتتفاقم هذه المسألة بسبب تورّط الشرطة المزعوم في ما يسمى جرائم الشرف. على سبيل المثال، ذكر أحد المنتسبين إلى الشرطة يعمل في إحدى المحافظات العشائرية المحافِظة قصة اعتقال فتاة كانت دون سن الثامنة عشرة واحتُجِزت بسبب هروبها من عائلتها مع شخص تحبه بعد أن حاول أهلها تزويجها قسراً. وبدلاً من حمايتها، أبلغ الشرطي عائلتها بمكان وجودها وهو يعلم جيداً أنّ عائلتها ستقتلها. وبالتالي غادرت الفتاة مركز الشرطة مع عائلتها وأفراد من عشيرتها، وما هي إلّا ساعات حتى أعيدت جثة هامدة إلى المركز. وبحسب ما ذكَرته قاضية في إحدى المحاكم، لا أحد يسمع بجرائم العنف والعنف الجنسي وجرائم القتل بداعي الشرف ضد النساء والفتيات، لأن الجميع يلتزم الصمت، الأسرة والجيران والشرطة.

تتَّسم العلاقة بين الشرطة والمجتمع العراقي بالتوتر، ولا سيّما بالنسبة إلى النساء اللواتي يلتمسن المساعدة أو يُبلِغن عن الحوادث. وتتسبّب الوصمة الاجتماعية المتجذرة بعمق، لا سيما في المجتمعات المحافظة، بثني النساء عن طلب المساعدة، لأن دخول النساء إلى مراكز الشرطة يمكن أن يضرّ بسمعتهن. وقد اصطدمت الجهود التشريعية لمكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي بالعقبات. وممّا يعوق العدالة أنَّ من يُجري التحقيقات المنحازة في القضايا التي تشمل النساء هم ضباطٌ رجال، بسبب ندرة الضابطات اللواتي لا يمثلن سوى نسبة 2 في المئة من وزارة الداخلية، وبعض هؤلاد الضباط لا يرسل القضايا إلى المحكمة بسبب تحيّزه ضد النساء.

وحتى الخط الساخن لحالات العنف المنزلي، الذي يديره الضباط الرجال، عادةً ما يميل إلى رفض شكاوى النساء وثنيهن عن متابعة الإجراءات القانونية للحفاظ على شمل الأسرة. وذُكر في ورشة تدريبية نفَّذتها كاتبة هذا المقال أن هؤلاء الرجال لا يأخذون تقارير العنف على محمل الجد ولا يسجّلون جميع الشكاوى التي ترِدُهم، وبدلاً من ذلك، يحاولون إقناع النساء بالتراجع عن تصريحاتهن لمنع أسرهم من “التفكك”.

عقبات أمام الإصلاح

هناك اهتمام دولي بإصلاح القطاع الأمني ووزارة الداخلية في العراق وتطوير آليات مساءلة فعالة من داخل المؤسسات وخارجها. وينبغي أن تستند هذه الآليات إلى مبادئ الأمن الإنساني واحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان. لهذا السبب جرى تضمين فقرة في مدوّنة سلوك منتسبي وزارة الداخلية بعنوان “مسار العدالة الجنائية للنساء والفتيات” في نيسان/ أبريل ٢٠٢٢، وتؤكّد هذه الفقرة ضرورة إيلاء اعتبار خاص للتحديات التي تواجهها النساء والفتيات أثناء التحقيقات والاحتجاز، وأن تكون هذه الإجراءات خالية من جميع أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي.

إلّا أنّ هناك مؤشرات عديدة تؤكد أنَّ ضعف تفاعل أصحاب القرار وعدم وجود إرادة سياسية كافية، ما يزالان يشكّلان عقبة كبيرة أمام إصلاح قطاع الأمن. ومع أن القوانين قد تُعدَّل، وربما تُفرَض عقوبات إضافية، لكن هذه القوانين والعقوبات غالباً ما لا تُطبَّق على أرض الواقع. وفي ظل الهيمنة السياسية على المؤسسات الأمنية، فإن هذه القوانين وضعف تنفيذها إنما تعكس مصالح النخب السياسية وغاياتها. فبالنسبة لهؤلاء، ما يزال مفهوم أمن الدولة يحظى بالأسبقية على أمن الأفراد، والنساء والفتيات هنّ المتضرّرات أكثر من أي أحد آخر.

هذه المقالة جزء من سلسلة مقالات ينشرها تشاتام هاوس وتهدف إلى تقديم رؤى متعمقة عن المجريات الداخلية للحكومة العراقية وتقييم ما يمكن للتطورات الأخيرة – المعلنة وتلك التي وراء الكواليس – أن تكشف عنه بشأن آفاق الوصول إلى دولة عراقية أكثر استقراراً وازدهاراً وخضوعاً للمساءلة.

وهذه السلسلة جزء من مسار العمل في الاقتصاد السياسي للإصلاح، ضمن إطار مبادرة العراق في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي يقودها مدير مشروع المبادرة الدكتور ريناد منصور.