فهمُ مقتدى الصدر: من داخل مدينة الصدر في بغداد

بعد اقتحام أنصار مقتدى الصدر البرلمان العراقي، تقدّم دراسة استقصائية أجراها مركز تشاتام هاوس للسكان في مدينة الصدر ببغداد نظرةً متعمّقة ونادرة على تصرفات رجل الدين الشعبوي ودوافعه.

بعد فوزهم الصادم في انتخابات 2021، زعم الصدريون أنهم بصدد الدفع بالعراق نحو سياسةٍ جديدة. ولكن بعد تسعة أشهر من الإخفاق في تشكيل الحكومة، يبدو أن زعيمهم رجل الدين الشعبوي مقتدى الصدر قد يئس وانسحب من عملية تشكيل الحكومة. وعِوضاً عن ذلك، دعا إلى احتجاجات جماهيرية وأرسل أتباعه لاقتحام البرلمان واحتلاله وطالب بإجراء انتخابات جديدة. وردّاً على ذلك، أرسل معارضوه، نوري المالكي وقوات الحشد الشعبي المتحالفون مع إيران، أنصارهم إلى المنطقة الخضراء في بغداد ممّا أنذرَ بخطر نشوب نزاع بين الطرفين المدججَين بالسلاح. 

ولو أنّه من المستبعَد أن يؤدي هذا الوضع إلى حرب أهلية شيعية، إلا أن هناك مخاوف متزايدة بشأن المدى الذي يرغب الصدر في الذهاب إليه. ووفقاً لتساؤلٍ طرحه أحد صانعي السياسات على مؤلّفي هذا التقرير، "أيُمِكن لرجل واحد أن يحتجز دولة بأكملها رهينةً؟" 

على الرغم من مسرحيات احتلال البرلمان فإن هدف الصدر ليس الثورة أو قلب النظام السياسي، بل كسب المزيد من السلطة من خصومه الشيعة وخصوصاً نوري المالكي. وطالما أن المالكي خارج المشهد فإن الصدر على استعداد لمواصلة النظام الإثنوطائفي والعمل مع النخبة الكردية والسنية ممن يشاركون في الحُكم. 

إلّا أنّ سنوات من الهيمنة على حكومة فاسدة ألحقت الضرر بموقع الصدر كزعيمٍ دينيّ شعبويّ وأضرّت بعلاقته بقاعدته الاجتماعية. وبالتالي فإن انسحابه من البرلمان لا يرمي فقط إلى تكثيف الضغوط على خصومه السياسيين، بل إنه وعلى قدرٍ من الأهمية يشكّل أيضاً محاولة لتجديد شرعيته. 

وفي واقع الأمر، يُعدّ فهمُ القاعدة الصدرية المفتاح لفهم الصدر نفسه. وتحقيقاً لهذه الغاية، أجرى مشروع مبادرة العراق في تشاتام هاوس دراسةً استقصائية نادرة شملت أكثر من 1000 من أنصار الصدر في منطقة مدينة الصدر ببغداد قدّمت رؤى متعمّقة فريدة من نوعها لجماعةٍ غالباً ما يساء فهمها. 

فهمُ القاعدة الجماهيرية للتيار الصدري

يُعدّ التيار الصدري أحد أكبر الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط ويتألف من ملايين الأشخاص الذين ينتمون إلى شريحة سكانية فقيرة من سكّان الضواحي. وهذه القاعدة الشعبية هي مصدر رئيسٌ لقوّة الصدر، إلاَّ أنها ماتزال محاطة بالتصورات المغلوطة بشأن فهمها. لقد سعت مجموعات مختلفة إلى استخدام هذه القاعدة لأغراضها الخاصة، وعلى سبيل المثال، حاول اليساريون والليبراليون تعبئة هذه القاعدة في حملة مكافحة الفساد في عام 2016. وفي الآونة الأخيرة، اعتقدت الولايات المتحدة بإمكانية استخدام هذه القاعدة الشعبية لمواجهة النفوذ الإيراني في العراق، في حين سعت إيران نفسها – وكذلك الجماعات المتحالفة معها – إلى انتزاع القاعدة من الصدر. 

غير أنّ هذه المحاولات لم تُفلِح، وتساعد نتائج هذه الدراسة الاستقصائية في تفسير السبب، إذ أنَّ إلقاء نظرةٍ على القاعدة الصدرية يقدّم أيضاً لمحة عن المسار السياسي للحركة وانعكاساته على استقرار العراق. 

انعدام الثقة في السياسة بشكلها الرسمي وتفضيل الزعامة الدينية

أظهرت إحدى النتائج الرئيسية للدراسة الاستقصائية لمدينة الصدر أن الأغلبية لا تثق في المؤسسات السياسية العراقية، وأشار 55 في المئة من المجيبين إلى أنهم لا يثقون في البرلمان مُطلقاً، وقال 45 في المئة إنهم لا يثقون في مجلس الوزراء مطلقاً.

الشكل 1. مدى ثقة المجيبين بمجلس النواب 

الشكل 2. مدى ثقة المجيبين بمجلس الوزراء

ولدى سؤال المجيبين عمن يعتقدون أنّ بوسعه إصلاح المشاكل السياسية الراهنة في العراق، أشاروا إلى الزعامة الدينية. 

ويساعد هذا في تفسير سبب نأي الصدر بنفسه عن السياسة في كثير من الأحيان. وينظر أتباع الصدر إلى رجال الدين باعتبارهم ممثلين شرعيين يمكنهم، بل وينبغي لهم، أن يعالجوا القضايا السياسية الأكبر، في حين أن الساسة غير جديرين بالثقة وملوَّثين بالفساد ويتخذون قرارات تضرُّ بالعراقيين. إلاّ أن الصدر ومنذ فوزه بانتخابات 2018 أصبح أكثر ارتباطاً بهذه المؤسسات السياسية، مما خلق فجوةً بين هويته الدينية وهويته السياسية المتنامية. 

وقد أخبرَنا كبار المسؤولين الصدريين في معرِض المقابلات التي أُجرِيت لغرض هذه الدراسة الاستقصائية أن الاقتراب من السياسة بشكلها الرسمي أوجدَ مسافة بين الصدر وأتباعه، وأن هذا هو السبب في أنّ التيار أراد في البداية مقاطعة انتخابات 2021، وحين قرّر في نهاية المطاف الترشّح – وفاز بنتيجة مفاجئة – أرادَ أن يُظهِر لقاعدته الشعبية أن لم يكن يلعب السياسة بشكلها المعتاد. وكانت قيادة التيّار تعتقد أن حكومة "الأغلبية" يمكن أن تحلّ محلّ أسلوب التوافق السياسي الذي حكم العراق منذ عام 2003، لكن الصدريين فشلوا في تشكيل حكومة الأغلبية. وفي مواجهة خيار ممارسة السياسة المعتادة، قرر الصدر الانسحاب من العملية الرسمية لتشكيل الحكومة للتركيز على سياسة ذات طابع نضالي متجّذرة في الزعامة الدينية، وذلك في محاولة لاستعادة بعض الشرعية. 

كذلك كشفت الدراسة الاستقصائية أن القاعدة الصدرية شديدة التديُّن، ويعتقد معظم أتباع التيار أن الحكومة والدولة – وحتى القانون الجنائي – يجب أن تحكمها الشريعة الإسلامية. لذلك فإن الزعامة الدينية للصدر ضرورية لفهم طبيعة القاعدة الشعبية للتيار وهي تمثّل دحضاً لما يقترحه المحلّلون لناحية إمكان تعبئة هذه القاعدة مِن قِبَل القادة العلمانيين أو الليبراليين أو غيرهم. وتُظهِر هذه الزعامة أيضاً أنه بينما أُفرِغَ العديد من الجماعات الإسلامية الشيعية في العراق عقائدياً ولم تعد ملتفّةً حول الأفكار والهويات الدينية فإن الصدريين لا يزالون استثناءً. 

الشكل 3. من تعتقد/ين أن لديه القدرة على تغيير الوضع برُمّته في العراق؟

الشكل 4. إلى أي مدى توافق/ين على أن "الحكومة يجب أن تسنّ القوانين وفقاً للشريعة الإسلامية "؟


آراء سلبية في حركة احتجاج تشرين (أكتوبر) 2019 

على الرغم من أن النظرة السائدة للاحتجاجات في العراق غالباً ما ترى فيها صوتاً واحداً موحَّداً، أو أنها تنطوي على إمكانات الوحدة، إلا أن الاستقصاء الذي أُجري لمدينة الصدر وجد آراءً مختلطة إزاء حركات الاحتجاج بما في ذلك الحركات البارزة في حراك تشرين. ورأى أكثر من ربع المجيبين أن حراك تشرين سلبيّ إلى حد ما، ورأى 16 في المئة منهم أنه سلبيٌ جداً. ويكشف هذا عن المدى المحدود الذي يمكن فيه للصدريين حشد الأنصار من حراك تشرين – وهو الأمر الذي سيشكّل أولويةً لأجندة الصدر في محاولته استرداد ساحات الاحتجاج. 

الشكل 5. ما رأيك بحركة تشرين؟

على الرغم من انخفاض إقبال الناخبين إلا أن الصدريين سيواظبون على التصويت 

على الرغم من انخفاض إقبال الناخبين في جميع أنحاء العراق، لا يزال الصدريون على استعداد للتصويت. ووجدت الدراسة الاستقصائية أن نسبة 36 في المئة من الناخبين من المرجح جداً أن يصوّتوا في الانتخابات المقبلة، بينما بلغت نسبة الناخبين الذين قالوا إن من المرجح إلى حدٍّ ما أن يصوّتوا 9 في المئة. وفي حين كان الصدر أيضاً من بين الذين خسروا أصواتاً في عام 2021 مقارنة بعام 2018، يشيرُ واقعُ أن قاعدته من المرجّح أن تقبل على التصويت أكثر من المجموعات الأخرى إلى أنّ تراجُع إقبال الناخبين سيؤثر على منافسيه أكثر ويفسّر أيضاً دعواته لإجراء انتخابات أخرى. ولا تزال القاعدة الصدرية أداة هامة وعامل تمكين للتيار في العملية السياسية في العراق وسبب استمرار منافسته في الانتخابات. 

الشكل 6. ما مدى احتمال مشاركتك في التصويت في الانتخابات القادمة؟

جمهور الصدر هو قاعدته

بسبب طبيعتها المُنغلِقة، لم يُجرَ سوى القليل جداً من التحليل السوسيولوجي للقاعدة الصدرية، إلاّ أن نتائج هذه الدراسة الاستقصائية تقدّم إجابات للمساعدة في فهم صنع القرار السياسي في التيار الصدري. ومن شأن فهم طبيعة هذه القاعدة أن يُفضي إلى معرفة من هُو جمهور الصدر حينما تبدو قرارات زعيم التيار وأفعاله مشتّتةً وغير متوقعة ومحسوبة بشكل خاطئ. كما أنها تساعد في تفسير عدم نجاح الجهود السابقة للعمل مع القاعدة الصدرية. وتُظهِر هذه الدراسة الاستقصائية أنّ مقتدى الصدر سيظل لاعباً رئيساً في السياسة العراقية، وأنَّ إدراك هذا العنصر في التيار الصدري أمر بالغ الأهمية لاستقرار البلاد في السنوات المقبلة.