تونس تغرق في الحكم الاستبدادي مع اقتراب الانتخابات

  • شيماء بوهلال

    Associate Fellow, Middle East and North Africa Programme

    زميل برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا - تشاتام هاوس

يخشى العديد من التونسيين أن خريطة الطريق الجديدة للرئيس هي انقلاب فِعلِيّ يشير إلى عودة الحكم الاستبدادي نظراً لافتقار الانتخابات المقبِلة إلى الرقابة المستقلة.

لم تستند خارطة الطريق التي أطلقها الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو/تموز – التي علّقت الهيئة التشريعية ومنحت الرئيس سلطات استثنائية – إلى الحوار مع الجهات الفاعلة السياسية أو المجتمع المدني ونصَّت على أن بإمكان سْعَيِّد أن يشرف على استفتاء في أغسطس/آب 2022، وهو ما أفضى إلى اعتماد دستور جديد. 

وأعقب ذلك الإعلان عن إجراء انتخابات تشريعية في السابع عشر من ديسمبر/ شهر كانون الأول وإصدار مرسوم انتخابي جديد. وقد تأكدت المخاوف بشأن النظام الانتخابي، إذ أُدخِلت عليه تغييرات أساسية بمباركة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وهي الهيئة التي يستخدمها قيس سعيِّد لإضفاء الشرعية على سيطرته على العمليات الانتخابية. 

وبكونها هيئة مستقلة اكتسبت طابعها الدستوري بموجب دستور عام 2014، تُعدّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات علامةً على التحول الديمقراطي في تونس لأسباب تتعدى مجرّد استبدالها الرمزي للدور الذي كانت تضطلع به وزارة الداخلية في تنظيم الانتخابات قبل ثورة 2011. 

البناء على عقد من النجاح

لقد نجت الهيئة من تغييرات مفاجئة في تركيبتها قبل مواعيد انتخابية رئيسية (مثل الانتخابات البلدية لعام 2018) دون تأثير واضح على سمعتها أو أدائها، وذلك لأنها بنت على نجاحها خلال تخطيط وتنظيم الانتخابات التأسيسية في عام 2011 ورسخّت العمليات السياسية واللوجستية في التعامل مع الدورات الانتخابية. 

وقادت الهيئة النقاشات بشأن تنقيح القانون في ثلاثة انتخابات مختلفة، رئاسية وتشريعية وبلدية، بالتعاون مع الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، ووضعت نموذجاً للإشراف على الانتخابات من خلال الشراكات مع الأطراف الفاعلة الوطنية والدولية. كما اضطلعت الهيئة بقيادة النقاشات مع أبرز الجهات الفاعلة الحكومية المشاركة في العملية الانتخابية، مثل المحاكم الإدارية والمالية، والهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السّمعي والبصري.

وبرغم وجود انتقادات للانحياز المحتمل لأعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تشير إلى خضوعهم للتأثير الحزبي، إلا أن جميع نتائج الانتخابات منذ الثورة التونسية حظيت بقبول الأحزاب المتنافسة والمنظمات غير الحكومية.1

ولكن سْعيّد، ومنذ عام 2021، أخذ يستخدم الهيئة لحماية قراراته من التدقيق الدولي، وقد تجلّى هذا بوضوح خلال عملية اعتماد الدستور الجديد بعد أول استفتاء أُجري منذ عام 2002 (عندما أدخل الرئيس زين العابدين بن علي تغييرات دستورية لمنحه الحق بالحكم لفترة غير محدودة). 

ويُعدّ الاستفتاء الأخير محطة أساسية في توطيد الحكم الاستبدادي لـ"سْعيّد" إذ إنه وضع نهاية رسمية للإطار الدستوري لعام 2014. وقد أُبقِي على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات لتكون بمثابة هيكل الدولة الذي يُنظم الاستفتاء على النص الدستوري الجديد، وهي السلطة الدستورية الوحيدة التي حُفِظت لها من دستور 2014.2

وأعرب السياسيون والأطراف المهتمة الأخرى عن قلقهم إزاء عدم تلبية الاشتراطات اللازمة لإجراء عملية انتخابية نزيهة وشفافة، وغياب الحوار، وتدهور البيئة الديمقراطية، فضلاً عن الجوانب التقنية والمؤسسية المحيطة بدور الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في عملية الاستفتاء. 

وفي وجه هذه الموجة من اغتصاب السلطة، لم تتمكن الهيئة من الحفاظ على إرثِها وقد ابتُليت بالتغييرات في كيفية تشكيل مجلسها من مجلسٍ يصوِّت عليه البرلمان إلى مجلس يعيّنه الرئيس. 

وجاء هذا الإجراء مستنداً إلى نفس الحجج التي استخدمها سعيّد لتجميد البرلمان أولاً ومن ثم تعليقه، في إشارة من الرئيس إلى ضرورة إعادة كتابة كل ما وضعته الهيئة التشريعية السابقة. 

كان التغيير في تركيبة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات من خلال المرسوم استمراراً لما حدث سابقاً للمجلس الأعلى، ما يؤكد أن سعيّد مستعد لتغيير قواعد اللعبة من جانب واحد حتى لو كانت تؤثر على ركائز التحول الديمقراطي في تونس، أو ربما كان هذا التأثير هو ما يريده  تحديداً. 

وسُرعان ما واجهت الهيئة التي تضم ثلاثة أعضاء من المجلس السابق الذي اختاره الرئيس حالةً من عدم الاستقرار، إذ شجَب سامي بن سلامة، وهو أحد الأعضاء المعينين حديثاً الاحتيال المحتمل في عملية تسجيل الناخبين والقرارات الأخرى التي اتخذتها الهيئة في ما يتعلق بالتحضير للاستفتاء. 

وقد ألغت الهيئة عضوية بن سلامة وهو يواجه الآن اتهامات تتعلق بمزاعمه. وعلى الرغم من الخلافات داخل الهيئة وكتمِ أي انتقاد للعملية من الداخل، كان هناك توافق واضح في الآراء بشأن تهديد حرية التعبير والمشاركة السياسية لمن يعارضون الاستفتاء. حتى أنّ أعضاء الهيئة هاجموا كلاًّ من الفاعلين السياسيين الذين دعوا علناً إلى المقاطعة والمؤسسات الإعلامية التي توفر تغطية لأنشطتهم، زاعمين أن مثل هذه الأفعال يجب اعتبارها جرائم جنائية تؤدي إلى السجن.

تغيير القانون الانتخابي دون مراعاة الأصول القانونية

لا توجد دلائل على أن تنظيم الانتخابات التشريعية في ديسمبر/ كانون الأول سيكون مختلفاً عن استفتاء يوليو/ تموز. وقد مكّنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات سعَيّد من تعديل قانون الانتخابات دون أي شكل من أشكال المشاركة المفتوحة للشارع أو للهياكل السياسية والمدنية المنظمة. وعلى الرغم من أن الأحزاب الداعمة، مثل حركة الشعب، ادّعت أنها قدمت اقتراحات خطية إلى الرئيس، إلا أن الهيئة قالت فقط إن مناقشة حول مشروع المرسوم الانتخابي جرت بينها وبين سْعيّد وأن التغييرات أجريت بناءً على توصياتها. 

ومع هذه المحدودية في الشفافية التي تحيط بالعملية، تشير المعلومات المحدودة التي استُخلِصت من المتحدث باسم الهيئة إلى أن التوصيات اقتصرت على الجانب الفني، مما يشير إلى أن ما جرى تأطيره علناً على أنه تشريع تشاركيّ كان في الواقع مجرد استشارة تقنية.

وانتقدت الأحزاب السياسية التي كانت تدعم استيلاء سعيّد على السلطة (في الإطار الذي اُطلق عليه اسم "مسار 25 يوليو " قانون الانتخابات، على أساس تدابير مثل التزكية (أن يجمع المترشّح 400 توقيع من الناخبين كجزء من متطلبات الترشيح)، وإعادة تحديد الدوائر الانتخابية، وتعليق التمويل العمومي للحملات الانتخابية، وتجريد المرشحين الحزبيين من جميع المؤشرات التي تدلّ على هويتهم الحزبية. وذهبت بعض الأطراف الفاعلة إلى حد التهديد بمقاطعة الانتخابات زاعمةً أن التغييرات التي أجريت على قانون الانتخابات أظهرت أن سعيّد يريد إنشاء "دولته وشعبه ومؤسساته ".3

واكتسب النقد زخماً وتجاوز الإطار القانوني ليطال كذلك الدور الذي تلعبه الهيئة المستقلة العليا للانتخابات وأداءها الذي كان يؤثّر على فرص نجاح بعض المرشحين. وأعطت الهيئة لنفسها الحق في اتخاذ قرارات تبدو "قانونية" في ظاهرها ولكنها تؤثر بشكل واضح على نزاهة العملية الانتخابية. ومن بين تلك الإجراءات تمديد فترة الترشيح لمدة ثلاثة أيام من التاريخ النهائي الأولي (24 أكتوبر/ تشرين الأول)، مما أدى إلى عدم احترام الجدول الزمني للانتخابات الذي نُشر في البداية على أنه في 24 سبتمبر/أيلول 2022. وعلى الرغم من أن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ادّعت أن هذا التمديد يهدف إلى زيادة تشجيع المشاركة السياسية، إلا أنه لم يحُل دون عدم وجود مرشحين في 10 دوائر انتخابية. كما فتحت الهيئة المجال أمام إمكانية تغيير تسجيل الناخبين بعد تقديم الترشيحات، وعلى الرغم من أن هذا الإجراء استبعد المرشحين والناخبين أصحاب تواقيع التزكية، إلا أنه أثار مخاوف عميقة بشأن تأثيره على نتائج الانتخابات.

وكان القرار الذي اتخذه سعيّد بالإبقاء على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات على الرغم من حل المؤسسات غير التنفيذية الأخرى في بادئ الأمر قد أعطى الانطباع بأن هيئة مستقلة سوف تضطلع بتنظيم العملية الانتخابية. ولكن ما من شكّ الآن في أن استقلالية الهيئة محضُ سراب أوجده الإيهام بالشكليات التي يتخذها سعيّد أسلوباً لعمله. 

وكما يقول المثل التونسي الشهير فإن ما أُعطي باليد اليمنى أُخِذ باليد اليسرى، ومن الصعب تصوّر مصير مختلف لأي مؤسسة أخرى، سواء لناحية الحفاظ عليها أو لإنشائها في ظل حكم سعيّد الاستبدادي

__________________________

[1] أعرب منصف المرزوقي، أول رئيس لتونس منذ عام 2011، ومرشح في انتخابات عام 2014، عن مخاوفه من أن الانتخابات الرئاسية لعام 2014 ربما تكون قد شهدت حدوث تلاعب فيها. (المصدر)

[2] كان دستور عام 2014 يتوخى إنشاء خمس هيئات دستورية، وكانت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات هي الوحيدة التي تأسست بالكامل (أي من ناحية النص القانوني وانتخاب الأعضاء). وأُنشئت مؤقتاً في عام 2011 هيئتان أُخريان (هيئة محاربة الفساد وهيئة الاتصال السمعي والبصري)، وقد علّق سعيِّد عمل الهيئة الأولى، بينما تعرّضت الهيئة الثانية (هيئة الاتصال السمعي والبصري) للتهميش السياسي وفقاً لما شهدته العملية الانتخابية.

[3] ذكر ذلك الأمين العام لحركة البعث في تونس عثمان بلحاج عمر في مقابلة أجريت معه في أكتوبر/تشرين الأول 2022. (المصدر