منذ توقيع اتفاق المصالحة مع النظام السوري في صيف 2018، تراجَع الدور الذي لعبته العشائر وقادة المجتمع المدني في الإدارة الملحية في درعا بجنوب سوريا تراجعاً كبيراً. إلاَّ أن كلاًّ من زعماء العشائر التقليديين والجدد – الذين لا يمثلون فقط العشائر التي ينتسبون إليها، ولكن أيضاً مناطق تمتد خارج حدود مناطقهم المحلية – يواصلون لعب دور في مجالات مثل الخدمات والأمن والمسائل الاجتماعية في مجتمعاتهم.
قبل ثورة 2011، كان النظام يمنح زعماء العشائر والمجتمع المحلي المناصب الحكومية مع إبقائهم تحت المراقبة، وكان ضباط الأمن يكافئونهم على الإبلاغ عن مجتمعاتهم المحلية كـأن يساعدونهم في حلحلة مشاكلهم الشخصية مع مؤسسات الدولة. بينما قمع النظام الزعماء الذين بقوا خارج صفوفه، إما بمقاضاة أنشطتهم التجارية وحرمانهم من تصاريح العمل، أو من خلال ملاحقتهم بواسطة أجهزته الأمنية.
ومع بداية الثورة السورية، حاول النظام إجبار زعماء العشائر على المساعدة في قمع أصوات المتظاهرين، ما دفع العديد من زعماء العشائر التقليديين إلى الابتعاد عن المشهد السياسي. وساهم هذا، إلى جانب الصراع نفسه، في ظهور طبقة جديدة من الزعماء: القادة العسكريون الذين برزوا إلى الصدارة في مجتمعهم من خلال قيادة وحدات المعارضة، والقادة المدنيون الذين برزوا من خلال إدارة مناطق خارج سيطرة النظام.
وهكذا فإن السنوات الست التي سبقت توقيع التسوية كانت تُمثّل العصر الذهبي للعشائرية، وكان هؤلاء الزعماء الجدد قادرين على ممارسة سلطة لا حدود لها خلال فترة حكم المعارضة في المنطقة، لكن هذا الواقع تغيّر مع توقيع اتفاقيات التسوية.
أوجه الاختلاف المناطقية
أدت الحملة العسكرية التي شنها النظام السوري قبل توقيع التسويات إلى ظهور مناطق نفوذ مختلفة، فمناطق المصالحة هي المدن التي دخلت إليها الحكومة السورية دون اتفاق تسوية أو ضمان روسي، مثل إنخل وداعل والحارة، في حين أن مناطق التسوية هي المناطق التي استعادت دمشق سلطتها الجزئية عليها – في بعض الحالات اقتصرت السيطرة على وجود مكاتب لـلخدمات الحكومية – مثل بصرى الشام ومدينة درعا وطفس ونوى وجاسم. ويختلف دور زعماء العشائر من مدينة إلى أخرى تبعاً لشكل التسوية التي جرى التوصل إليها وكذلك علاقة المدينة بروسيا والنظام.
في مناطق المصالحة، يتصرف زعماء القبائل الموالون للنظام وفقاً لتوجيهات الأجهزة الأمنية، بينما يتوارى القادة الجدد – الأعضاء السابقون في المعارضة – بعيداً عن الأنظار، إذ تعتقل الأجهزة الأمنية العديد منهم أو يُغتالون بأيدي مجهولين.
في مناطق التسويات، تعتمد أوجه الاختلاف المناطقية على القوة العسكرية لجماعة المعارضة التي تفاوضت على التسوية، فضلاً عن شخصيات القادة الجدد وأعضاء لجان المفاوضات. وعلى سبيل المثال، في بصرى الشام، يبدو دور القادة تماماً مثلما كان قبل التسوية، وينطبق الأمر نفسه على مدينة درعا وطفس في غربي محافظة درعا. وفي حين يغلب القادة العسكريون على المشهد في صفوف الزعماء الجدد في طفس وبصرى الشام، تُساعِد لجنة خدمات من زعماء العشائر في منطقة درعا البلد على إدارة الخدمات إلى جانب المؤسسات الحكومية، وكذلك لجنة مفاوضات، تتكون من الجيش والأفراد المدنيين، يتولّون المهام الأمنية والتفاوض مع الحكومة حول المعتقلين والتسوية.
العشائر والخدمات
يعتمد دور زعماء العشائر والقادة الجدد في مختلف المجالات على نوع الاتفاق الذي جرى التوصل إليه – المصالحة أو التسوية – ومدى قوة فصائل المعارضة المحلية التي وقّعت الاتفاقية وما تزال تسيطر على المنطقة. على سبيل المثال، تختلف حالة طفس عن حالة بصرى الشام بسبب أحمد العودة، القائد السابق لفصيل قوات شباب السُنة الذي كان يسيطر على بصرى الشام. أتاحت علاقة العودة مع الضامن الروسي ووزن فصيله العسكري امتيازات لبصرى الشام لم تتوفر في طفس. ومع ذلك، في جميع أنحاء المحافظة، يلعب الأعيان دوراً في التوسط بين المجتمعات والأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة المرتبطة بالخدمات. ويجري ذلك إما من خلال لجان المفاوضات المكونة من زعماء العشائر والزعماء الجدد – المدنيين والعسكريين – أو من خلال علاقاتهم الشخصية مع الدولة والمسؤولين النافذين.
تتكون لجنة خدمات درعا من زعماء العشائر وأعيان المجتمع المدني من مختلف أحياء وعشائر درعا. وتلعب اللجنة دوراً مهماً في الإشراف على أداء مؤسسات الدولة المرتبطة بالخدمات في المدينة، حيث تعمل كحلقة وصل بين السكان وهذه المؤسسات. كما تعقد اللجنة اجتماعات منتظمة مع مجلس محافظة درعا وبقية الإدارات المسؤولة عن الخدمات في مدينة درعا، من أجل تحسين جودة تقديم الخدمة.
على سبيل المثال، لعبت اللجنة دوراً حيوياً في التواصل مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية من أجل ترتيبات الشراء والرصد لعمليات برنامج لإدارة النفايات مدينة درعا. كان القيام بدورٍ كهذا مستحيلاً لزعماء العشائر قبل الثورة السورية.
في مدينة إنخل، شماليّ محافظة درعا، التي عادت إلى سيطرة الحكومة بدون تسوية أو أي ضمانات روسية، لم يتغير موقع زعماء المدينة الجدد والتقليديين بشكل كبير منذ الفترة السابقة للثورة. فهم متوافقون مع السلطة الحكومية وإرادة الأجهزة الأمنية ويلتزمون بحدود الأنشطة الاجتماعية والخدمية التي تهدف إلى إظهار التماسك بين مؤسسات الدولة والمجتمع، كما هو الحال في الرواية الرسمية للدولة. على سبيل المثال، في غياب أي جهود حكومية جوهرية لمساعدة العائلات المتضررة من فيروس كورونا، أطلق قادة عدد من العشائر- مثل الناصر والوادي والعيد والشبلي والزامل – حملة لجمع الأموال للأسر الفقيرة المتضررة من الفيروس من خلال جمع التبرعات من السكان والتجار. كما شارك أعضاء المجلس المحلي في هذه المبادرة ورحبوا بها.
يمكن أن يلعب المسؤولون الحكوميون المنتمون إلى عشائر معينة في درعا دوراً في تقديم الخدمات لمدنهم وأحيائهم. وعلى سبيل المثال، تلقّى حي في مدينة إنخل محطة تحويل من خلال علاقة عشائرية بين سكان المدينة ومسؤول في وزارة الكهرباء السورية.
العشائر والأمن
يلعب زعماء العشائر دوراً هاماً في توفير الأمن بسبب عدم قدرة الأجهزة الأمنية السورية على الإنجاز من جرّاء النزاعات الداخلية بينها وتنفيذها لأجندةٍ تخدم حليفَي النظام، روسيا وإيران. وعلى سبيل المثال، جنَّدت الأجهزة الأمنية أعضاء سابقين من فصائل المعارضة في مدينة درعا بهدف دفعهم إلى تنفيذ عمليات اختطاف واغتيال لأعضاء المعارضة. وخوفاً من النزاعات العشائرية، أصدرت عشائر درعا بياناً أعلنت فيه وحدتها ضد الفتنة ورفضت ممارسات العناصر المحلية للميليشيات الموالية للنظام.
وفي شرقيّ درعا، دفعت الاشتباكات بين الفيلق الخامس الذي شكّلته روسيا في بصرى الشام والفصائل المحلية من بلدة القريّا بمحافظة السويداء الغربية، دفعت زعماء العشائر من محافظتي درعا والسويداء للتدخل وحث الجانبين على وقف التصعيد.
ومنذ التوقيع على التسوية، انخرطت لجان المفاوضات بدرعا في مفاوضات مستمرة بشأن المعتقلين والخدمة العسكرية ومستقبل التسوية، وغيرها من القضايا الحساسة المتعلقة بمصير المنطقة.
ويحاول النظام استعادة قبضته على المناطق التي يلعب فيها زعماء العشائر دوراً رئيسياً في توفير الخدمات الأساسية والأمن مهدّداً أولئك الذين لا يتبعون خط الحكومة. وعلى الرغم من أن هذا يحدّ في نهاية المطاف من سلطة زعماء العشائر، إلا أن ضعف قدرة الدولة وغياب التحول السياسي في سوريا يدل على أنه من غير المرجح أن تتغير مشاركتهم في الإدارة المحلية في أي وقت قريب.