منذ اندلاع ثورة 2011، تدخلت مجموعات المجتمع المدني في السويداء لسد الثغرات التي أحدثها غياب النظام السوري. إلاَّ أن النظام ما يزال يشكل تهديداً أمنيًا للجهات الفاعلة في المجتمع المدني، ما يجبرها على العمل في الخفاء ويَقصُر عملها على دور لوجستي وتكتيكي أكثر.
المجتمع المدني يدخل على الخط
يتألف المجتمع المدني في السويداء من جمعيات خيرية محلية ونشطاء وصحفيين ميدانيين يعملون تحت رعاية قيادات محلية مؤثرة على صلة بعائلات مهمة لها روابط قبلية قوية في السويداء ودرعا. وقد تشكل المجتمع المدني في السويداء إلى حد كبير رداً على عمليات الخطف والخلافات بين سكان السويداء والنازحين داخلياً من المحافظات الأخرى وكذلك مع البدو في المنطقة. والأهم من ذلك، أنه انبثق من الفراغ الذي تركه النظام السوري، ما أجبر الجهات الفاعلة في المجتمع المدني على التدخل في دور أشبه بدور الحكومة المؤقتة. على سبيل المثال، وفقًا لتيم زيدان وسلام عزام * اللذان تمت مقابلتهما في هذا المقال، أمَر نظام الأسد الشرطة في السويداء بعدم تنفيذ أي اعتقالات، تاركاً للمجتمع المدني والأفراد المعنيين بالقانون والنظام محاولة محاسبة الجناة باستخدام تدابير مثل الرفض والعقاب المجتمعيِّيَيْن. إلا أنَّ تطبيق العقاب المجتمعي غير ممكن. لذلك، في حين يمكن للعائلات المهمة أو قادة الأحياء تشكيل لجان للمساعدة في حل النزاع، فإن قرارهم غير ملزم إذا لم يتعاون المتورطون في النزاع.
ساعدَت عدة عوامل مجموعات المجتمع المدني في السويداء على لعب دور محوري في تسوية المنازعات. ونتج عن سنوات من جهود بناء الثقة شبكة من العلاقات المهمة بين أعضاء المجتمع المدني والزعماء التقليديين ورؤساء العائلات الكبيرة والزعماء الدينيين – المعروفين باسم مشيخة العقل – والجماعات المسلحة. ولا تزال الروابط الاجتماعية القوية في المحافظة بشكل عام، والجنوب على وجه الخصوص، تلعب دوراً في حل النزاعات. لم يعمل قادة المجتمع المدني على بناء العلاقات داخل السويداء فحسب، بل قاموا أيضاً ببناء علاقات مع الزعماء التقليديين والمجتمع المدني في درعا.
التركيبة الحالية للمجتمع المدني في السويداء هي نتاج ما بعد عام 2011، باستثناء الزعماء العشائريين والدينيين، مثل العشائر التي تُتاخِم أراضيها درعا – مثل عائلتي – الذين كانوا يساعدون في حل النزاعات التي تنشب بصورة متكررة منذ عقود. يعتقد زعماء عشيرتنا أن السويداء ودرعا تتشاركان المصير نفسه وتجمعهم علاقة قوية مع التزام متبادل بالمواطنة والأخوة. وهذه العلاقات هي نتيجة عقود من تسوية النزاعات المحلية وجهود بناء السلام بين الزعامات في السويداء ونظرائهم في درعا.
الفجوة الأمنية
عندما غادرتُ سوريا في أوائل عام 2014، كانت شوارع السويداء قد امتلأت بحواجز التفتيش التابعة للنظام، لكن بحلول نهاية العام نفسه كانت تلك الحواجز قد أزيلت بعد الاشتباكات بين ضباط النظام الذين يحرسونها وبين حركة الكرامة، إحدى أكبر الفصائل الدرزية. وأدّت المواجهات المتكررة مع النظام في النهاية إلى اغتيال زعيم الحركة الشيخ بلعوس عام 2015.
وعقب هذه الحادثة، انسحب النظام من لعب أي دور في أمن السويداء، ليترك السويداء بدون أيّ من عناصر الشرطة على الأرض تاركاً سكّانها في حالة من الفوضى. كانت هذه الفجوة الأمنية، ولا تزال، تحدياً كبيراً للمجتمع المدني في السويداء، لكنها أوجدت بيئة ازدهرت فيها مجموعات المجتمع المدني بدافع الضرورة على الرغم من التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها.
كما تسببت الفجوة الأمنية المتعمَّدة التي أحدثها النظام السوري في ظهور فصائل عسكرية وميليشيات وجماعات مسلحة بتمويل من زعماء دروز في لبنان وفلسطين. ولم يمض وقت طويل قبل أن تبدأ بعض الميليشيات في إساءة استخدام سلطتها من خلال التجارة في السوق السوداء واختطاف النازحين داخلياً في السويداء – ومن ثمّ سكان السويداء أنفسهم – لكسب المال. وفي التعامل مع حالات الاختطاف في كل من السويداء ودرعا، استخدمت منظمات المجتمع المدني علاقاتها للمساعدة في الوساطة والتفاوض مع الخاطفين، إما من خلال مناشدة مشيخة العقل أو زعماء العائلات في محافظات الخاطفين.
تسخير قوة وسائل التواصل الاجتماعي
كما تدخلت الجهات الفاعلة في المجتمع المدني للتوسط بعد أن نهَبَ عناصر الجيش السوري منازل في درعا وحاولوا بيع ممتلكاتها المسروقة في السويداء. ونظراً إلى أنَّ الظروف الاقتصادية السيئة وسقوط الليرة السورية أدت إلى عدم قدرة الناس على تأثيث منازلهم، بالتالي بيعت البضائع بأسعار رخيصة. وعملت الجهات الفاعلة في المجتمع المدني على جبهات مختلفة داخل كل من السويداء ودرعا لمنع الاستياء بين المحافظتين المتجاورتَين. وجاءت أولى صور التعامل مع هذا الموقف عبر وسائل التواصل الاجتماعي من خلال حملة استخدمت هاشتاغات تحثُّ الناس على عدم شراء السلع المسروقة والتفكير في أصحابها لذين فقدوا منازلهم. وانطلاقاً من معرفتها الزعماء الدينيين في المحافظة، عملت الجهات الفاعلة في المجتمع المدني أيضاً عن كثب مع مشيخة العقل لإصدار"تحريم" وهو نوع من الفتاوى التي تُحرِّم على الناس شراء البضائع المنهوبة واعتبار ذلك تحدّياً لله والإسلام.
وقد استخدم الشباب الناشطون في المجتمع المدني مؤخراً وسائل التواصل الاجتماعي لقيادة النشاط المدني في جميع أنحاء السويداء ودرعا. وأبرز مثال على هذه الجهود هو الإطلاق الأخير لـ منصة للإعلام المدني تسمى صدى أو "صدى الجنوب السوري"، وهي مدونة تهدف إلى إشراك شباب المجتمع المدني في الجنوب. ولا يندرج هذا النوع من عمل المجتمع المدني تحت رعاية أي زعيم ديني أو عائلة مهمة، وقد أصبح ممكناً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، حيث وجد النشطاء من المحافظتَين بعضهم البعض وتبادلوا الأفكار مما أدى إلى إنشاء المدوّنة.
القيود المفروضة على المجتمع المدني
يتمثّل أحد القيود التي يواجهها الفاعلون في المجتمع المدني في السويداء في عدم قدرتهم على لعب دور مباشر في الجهود الإنسانية لمساعدة النازحين داخلياً وغيرهم من السكان. كما يتعين عليهم الاعتماد على دعم الزعماء الدينيين وأرباب العائلات المعروفة عند العمل في حل النزاعات في السويداء وما حولها.
لكن العقبة الرئيسية التي يواجهونها هي التخريب المتعمّد لجهود المجتمع المدني من قبل النظام السوري. وفقاً لتيم زيدان وسلام عزام، يحاول النظام تخريب جهود حل النزاع – بينما يحاول في آنٍ معاً أن ينسب الفضل لنفسه عندما تنجح هذه الجهود – ويمنع وصول المساعدات إلى منظمات المجتمع المدني المستقلة.
وعلى مدى السنوات العشر الماضية، أجبرت التهديدات بالاعتقالات وحظر السفر الجهات الفاعلة في المجتمع المدني على العمل في الخفاء إلى حد كبير وقصرِ عملها على دور لوجستي وتكتيكي. لكن على الرغم من التحديات التي تواجهها هذه المنظمات، يبقى التركيز الرئيسي لعملها منصبَّاً على صون السلم الأهلي لسكان السويداء.
* يستند هذا المقال إلى مقابلات مع زعماء المجتمع المدني والباحثين تيم زيدان وسلام عزام اللذَين استخدما أسماءً مستعارة.