صعود الاستبداد الرقمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

  • مارك أوين جونز

    Associate Professor of Middle East Studies and Digital Humanities at Hamad bin Khalifa University

    أستاذ مشارك لدراسات الشرق الأوسط والعلوم الإنسانية الرقمية بجامعة حمد بن خليفة

تتيح التكنولوجيا الرقمية للحكومات المستبدّة زيادة الوصول إلى الحيّز الخاص لمواطنيها وتفتح الباب أمام أشكال أكثر شمولية من الحكم.

عندما بدأت الانتفاضات العربية في عام 2010، كانت منصات وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب جديدة نسبياً وكان هناك اعتقاد عام بأن هذه الأدوات الرقمية الجديدة ستُستخدم لتعزيز النقاش العام والمساءلة وسوف تساعد المواطنين في تنظيم صفوفهم ضد الأنظمة الاستبدادية، واعتقدت هذه النزعة التي تسمى “الطوباوية التكنولوجية” أن التقنية كانت عامل تحريرٍ في المقام الأول.

ولكن من المسَلَّم به اليوم عموماً أنه لئن لعبت وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الرقمية الجوّالة دوراً مهماً في الربيع العربي إلا أنها كانت متغيّراً واحداً فقط من بين العديد من المتغيرات التي ساهمت في موجات التعبئة الشعبية. والأهم من ذلك، أصبح من الواضح بنحو متزايد أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن محفزاً للتغيير فحسب، بل كانت أيضاً أداة للقمع في يد الدولة.

ومثلما أظهرت الانتفاضات العربية فإن تطويع الاستبداد للتقنيات الجديدة يسلط الضوء على قدرة الدول على تحويل الأدوات الرقمية الجديدة إلى أسلحة تُستخدم للسيطرة على المواطنين. فمثل أي أداة أخرى، يمكن استخدام الأدوات الرقمية استخداماً مختلفاً تبعاً للسياقين السياسي والاجتماعي، وحيث توجد بيئة استبدادية فإن التكنولوجيا الرقمية تعكس هذا الواقع.

والاستبداد الرقمي تعريفاً هو استخدام التكنولوجيا الرقمية لقمع الانتقادات والمعارضة باستخدام المراقبة والتخويف والتلاعب والدعاية السياسية.

تقنيات القمع

يهدف القمع الرقمي إلى حد كبير إلى تفكيك الحركات السياسية القائمة والمحتملة أو قمعها من خلال التغيير السلوكي والرقابة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال استهداف المواطنين بالبروباغاندا والتلاعب والمراقبة والمضايقة، وفي الحالات القصوى بالتعجيز – أي الاعتقال أو القتل.

وبعض الدول قادرة على القيام بذلك بنحوٍ أفضل من غيرها، إذ تستطيع القوى العظمى الرقمية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة استخدام التكنولوجيا الرقمية لإبراز نفوذها وقدرتها القمعية محلياً وإقليمياً ودولياً.

وعلى صعيد المراقبة، تجلّى ذلك بعدد من الطرق المختلفة. على سييل المثال، تَستخدم بعض دول الخليج تكنولوجيا برامج التجسس التدخلية لاستهداف النشطاء، وتفيد التقارير أن المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة تستخدم برمجية التجسس بيغاسوس التي أنتجتها مجموعة إن إس أو الإسرائيلية. ويتسلل بيغاسوس إلى الأجهزة المحمولة لضحاياه ويُسجّل جميع رسائلهم ويحوّل هواتفهم إلى أجهزة تسجيل صوتي ومصوّرٍ مِن بُعد. وكان عدداً كبيراً ممن أٌبلِغ عن استهدافهم من قِبَل بيغاسوس يعيشون أو يعملون في اليمن والإمارات العربية المتحدة والبحرين وقطر. وقد استُهدِف ما لا يقل عن 36 صحفياً ومذيعاً ومسؤولاً في قناة الجزيرة في عام 2020.

ومع ذلك يمكن أن تكون المراقبة أكثر فظاظة وقد تكون للعمليات المحلية نسبياً آثار مروّعة على حرية التعبير. وفي الآونة الأخيرة، قررت هيئة محلفين أميركية أن جواسيساً سعوديين تسللوا إلى مقر تويتر وأرسلوا معلومات خاصة عن حسابات ناشطين سعوديين إلى الديوان الملكي السعودي مقابل المال والساعات الفاخرة. بالإضافة إلى المعلومات التي حصلوا عليها من عملية التسلل نفسها فإن إشاعة المعرفة بمثل هذا التسلل الجَسور لها تأثير مخيف وهي تعكس فكرة أن الدولة تحيط بكل شيء وهي مستعدة لاستخدام أي وسيلة ضرورية لكمّ الأفواه المعارضة.

من القوانين العقابية إلى المراقبة بنظام النظير للنظير 

إنّ من شأن العقوبات القانونية المروّعة وقوانين النشر والأمن الغامضة عن عمد أن تجعل أولئك الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لانتقاد الحكومة يواجهون عقوبات شديدة بالسَّجن بسبب أنشطة تبدو غير مؤذية، وهو ما يحدث فعلاً. على سبيل المثال، حُكِم على سلمى الشهاب، وهي مواطنة سعودية تدرس في المملكة المتحدة بالسجن لمدة 34 عاماً لمجرد إعادة تغريد ومتابعة حسابات تويتر التي تُعتبر “مثيرة للاضطرابات ومُزعزعة للأمن القومي”.

وتسلّط قضية الشهاب الضوء أيضاً على كيفية تفويض المواطنين الموالين بالمراقبة الرقمية، إذ يُزعم أن السلطات السعودية أُبلِغت عن الشهاب خلال تطبيق هاتف محمول يسمى “كلُّنا أمن”. ورغم أنه من غير الواضح ما إذا كان هذا البلاغ هو سبب استهدافها من قبل السلطات السعودية، إلا أن تكتيكات المراقبة بنظام النظير للنظير متفشية، وقد استخدُمت استخداماً كبيراً في انتفاضة البحرين لاستهداف المواطنين الذين شاركوا في الاحتجاجات أو أعربوا عن دعمهم للحركة المؤيدة للديمقراطية.

ومن الشائع أيضاً فرض الرقابة عن طريق المضايقة والتخويف والتعجيز، كما يتلقى الشباب الذين يديرون حسابات مجهولة أجوراً لقاء مضايقة المُنتقِدين. وتستخدم هذه الكتائب الإلكترونية المضايقات والتهديدات لإخافة النقاد وإسكاتهم ونشر المعلومات المضللة للتأثير على الآخرين، كما يساهم انتشارها في إشاعة تصوّرٍ يفيد بأن الدولة تحيط بكل شيء. غير أنّ استخدام هذا التكتيك لا يقتصر على الدول وحدها، فعلى سبيل المثال، شجّع مجاهدو خلق في إيران أعضاء الحركة على فتح حسابات متعددة على وسائل التواصل الاجتماعي من أجل مضايقة النقاد، وفي الحالات المتطرفة من طيف الرقابة يُقتل منتقدو النظام مثلما حصل مع جمال خاشقجي.

نحو الشمولية الرقمية؟ 

يساعد استغلال منصات وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً في نشر البروباغاندا، ويجري ذلك أحياناً بمساعدة شركات العلاقات العامة النافذة. ويمكن لجحافل من الروبوتات أو الحسابات المؤثرة المعزَّزة بالمتابعين المزيّفين التلاعب بالخوارزميات لضمان طمس النقد الموجّه لحكومة ما في الفضاء العام الرقمي. وبالمثل فإن الترويج للمعلومات المضللة يزدهر في الفضاء الذي يجرى احتواؤه، أي الفضاء الذي لا توجد فيه أصوات نقدية نتيجة للقمع الرقمي.

تتيح التكنولوجيا الرقمية للحكومات الاستبدادية إمكانية أكبر للوصول إلى الحيّز الخاص لمواطنيها، وتغدو الهواتف المحمولة على وجه الخصوص نواقل تحمل أكثر لحظاتنا حميمية من الذكريات الشخصية والمحادثات مع الأصدقاء والعائلة وصولاً إلى مواقع وجودنا الفعليّ. وما لم تُمنَع الأنظمةُ الاستبدادية من إساءة استخدام السلطة بلا قيود فإن التكنولوجيا الرقمية تفتح الباب أمام أشكال أكثر شمولية من الحكم، أي السيطرة بالإقناع على الحياة الخاصة والعامة على حد سواء.