على مدى السنوات الست الماضية، فوَّض النظام السوري قدراً كبيراً من سلطاته للميليشيات الموالية، وعهِد إليها بالحفاظ على الأمن، وتمثيل النظام، والتعامل مع الشؤون اليومية للمجتمعات المحلية. واليوم، يبدو من المستحيل تقريباً على الدولة استعادة سلطتها. وبالإضافة إلى ضعف الدولة السورية وفشلها المتزايد في توفير الخدمات الألساسية للمواطنين، اكتسبت الميليشيات الكثير من الأراضي التي لا تستطيع الدولة ضبطها وبسط سيطرتها الحصرية على السلاح والعنف فيها، حتى وإن رغِبت في ذلك.
تختلف حدَّة الفوضى الحالية في سوريا حسب المنطقة اعتماداً على التماسك الاجتماعي والمناخ الإثني الطائفي السائد؛ بيدَ أن نموذجاً متطابقًا يستنسخ نفسه في جميع المناطق التي يسيطر عليها النظام. وترتكب الميليشيات المحلية من اللاذقية إلى السويداء أعمال النهب والقتل والاختطاف للحصول على فدية بشكل يومي عندما تواجه ضغوطاً مالية أو كجزء من الصراعات الداخلية والحروب من أجل الأراضي التي تجعلها تنقلب على بعضها الآخر. كما تحصل الميليشيات على مدفوعات الحماية من التجار والصناعيين، وتتدخل في شؤون الشركات الخاصة، وتفرض "ضرائب" على الشركات الخاصة والعامة وتتحكم في أسعار السلع.
وقد تكون حلب، التي استعادتها قوات النظام في أواخر عام 2016، أكثر الأمثلة عنفاً التي تدلّ على حالة الفوضى وانعدام الأمن، إذ تسيطر الميليشيات التابعة للواء الباقر واللجان الشعبية وعشيرة برّي والعناجرة وكتائب القدس الفلسطينية وكتائب البعث على الأحياء الشرقية في حلب، فيما تنتشر ميليشيات الشبيحة المرتبطة بالأجهزة الأمنية في جميع أنحاء غرب المدينة.
وتتمتع الميليشيات باحتكار الخدمات الرئيسية التي أصبحت مصدر دخل لها، بدءاً من المستشفيات العامة والنقل وصولاً إلى الطاقة ومياه الشرب. وتدير كل ميليشيا مسلحة نوعاً من الخدمة والمنفعة العامة وتتقاسم العائدات مع الأجهزة الأمنية للنظام. على سبيل المثال، تدير ميليشيا لواء الباقر قطاع النقل في حلب، وذلك باستخدام أسطول كبير من الميكروباصات، وتتقاسم إيراداتها مع إدارة شرطة المرور والأمن العسكري.
الميليشيات الإيرانية والدولة الروسية؟
هذه الديناميكية بين الميليشيات والدولة هي في بعض جوانبها صراع بين النهجين المتباينين لحلفاء النظام: روسيا وإيران. على الرغم من الاتفاق الحالي بين روسيا وإيران للحفاظ على النظام السوري، فإن أهدافهم طويلة الأجل تتباين. فروسيا مهتمة بدعم الدولة السورية من خلال جيشها الرسمي، الذي تجسده القوات المسلحة، في حين تسعى إيران إلى تشكيل ودعم وتمويل مجموعة واسعة من الميليشيات الأجنبية والمحلية الموالية للنظام.
في أواخر عام 2016، حاولت روسيا تجنيد الميليشيات الموالية وإلحاقها بالفرقة الخامسة، وهي وحدة عسكرية شُكِّلت حديثاً تتبع للقوات المسلحة للنظام، وقد حقق الروس نجاحاً محدوداً في ذلك. وتحصل المجموعات المُلحقة مزايا محدودة بالمقارنة مع النفوذ والموارد المالية غير المشروعة المقدمة لأفراد الميليشيات.
وغالباً ما تُترجم الاختلافات بين المصالح الروسية والإيرانية إلى اشتباكات مسلحة على الأرض بين الوكلاء المحليين. وقد تطلَّب التوتر الذي اجتاح مؤخراً المناطق الخاضعة لسيطرة النظام حول منطقة خفض التصعيد في شمال حمص تدخُّل الشرطة العسكرية الروسية من أجل السيطرة على الميليشيات الشيعية الموالية لإيران هناك بعد رفضها للنتائج التي توصلّت إليها محادثات أستانا 5.
تندرج الميليشيات الموالية للنظام في فئتين رئيسيتين، تتكوّن الأولى من ميليشيات شيعية أجنبية تقاتل إلى جانب قوات النظام على الجبهات ضد المعارضة وتنظيم داعش، مثل حزب الله اللبناني وكتائب فاطميون الأفغانية ولواء زينبيون الباكستاني. أمّا الأخرى فتضمّ مئات الميليشيات المحلية التي عُهِد إليها بالحفاظ على الأمن في المناطق التي يسيطر عليها النظام، وأهمها وأكبرها قوات الدفاع الوطني.
وعلى الرغم من أن إيران ترعى معظم تجمعات الميليشيات، إلاّ أن الميليشيات المحلية تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الأجهزة الأمنية وتتألف في الغالب من السوريين. وفي بعض الأحيان، تشارك الميليشيات المحلية، ولا سيما قوات الدفاع الوطني، في القتال في المناطق المجاورة؛ بيد أن معظم الميليشيات تفضّل البقاء داخل حدود منطقتها. لذلك، فإن هذه الميليشيات تمكَّنت من جذب الشباب السوريين المطلوبين للخدمة العسكرية، لأنها توفر لهم مهرَباً من القتال على الجبهات. على سبيل المثال، في مدينة السويداء التي يهيمِن عليها الدروز، تخلّف أكثر من 27،000 شخص عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، وانضم العديد منهم بدلاً من ذلك إلى الميليشيات المحلية من أجل الاستفادة من المزايا المقدمة مثل الرواتب والسلطة والحماية من المساءلة القانونية في حالة ارتكاب أي تجاوزات.
الحملة الأمنية
ويتنامى الضغط الشعبي لدى مؤيّدي النظام للسيطرة على الفوضى والاضظراب اللذين تشكّلهما هذه الميليشيات الموالية. وقد انعكس ذلك في خطاب بشار الأسد في 20 حزيران / يونيو، حيث تحدث عن "بعض الظواهر المؤذية التي وقعت في السنوات الأخيرة من الأزمة، والتي تؤثر أحياناً بشكل مباشر على حقوق المواطنين"، أي "المواكب الضخمة، وإغلاق الطرق، مما يخلق انطباعاً بالإرهاب والذعر "وهو ما قام به بعض المسؤولين الحكوميين، أو أبنائهم، أو غير المسؤولين حتى." وقدم الرئيس هذا كجزء من "الإصلاحات الإدارية" التي تعتبر أساسية لتطوير عمليات مؤسسات الدولة وزيادة إنتاجية موظفيها مواصلةً لنهج التنمية والتحديث الذي طرحه الأسد في خطابه أمام مجلس الشعب عَقِب تنصيبه رئيساً في تموز / يوليو 2000.
وفي 21 حزيران/يونيو، قررت إدارة المرور في وزارة الداخلية في دمشق القيام بدوريات لمنع محاولات زعزعة الاستقرار وقمع أي مظاهر مسلحة في شوارع المدينة باستثناء الأسلحة التي يستخدمها عناصر الشرطة وقوات الأمن ضمن مسؤوليتهم الرسمية في ساعات العمل'. وقد حظيت هذه القرارات بدعم قيادة حزب البعث، وأبقت الرئاسة على خط هاتف وصفحة على وسائل التواصل االجتماعي لتلقي الشكاوى ضد كل من "يخالف القانون".
ونتيجة لهذه القرارات، صودرت في دمشق "رُخص أمنية" لم يصدرها مكتب الأمن الوطني وذلك من المدنيين الذين اشتروها مقابل الحماية من الميليشيات وتسهيل الانتقال عبر حواجز الطرق أو التهرُّب من الخدمة العسكرية الإلزامية. واستهدفت الحملة التي نفذها قسم التحقيق المروري والدوريات المشتركة الدراجات النارية غير المرخصة والسيارات المخفية اللوحات، والزجاج المظلّل، فضلاً عن عشرات المسلحين الذين يتجولون بعيداً عن مواقعهم العسكرية. وأصدر فرع حلب لحزب البعث تعليمات تحظُرُ على أعضاء كتائب البعث التجول بالزيّ العسكري داخل المدينة أوحمل أسلحة خارج قواعدهم. وفي محافظات أخرى، أزليت بعض المواقع الأمنية والعسكرية من المدن والبلدات، وتمت مصادرة مئات الدراجات النارية غير المرخصة، كما اعتُقل المئات من الشبان الفارين من الخدمة العسكرية ونقلوا إلى نقاط تجمع ومعسكرات تدريب.
غير أن جميع أفراد الميليشيات المحلية الصغيرة أُفرِج عنهم بعد 48 ساعة من اعتقالهم. ولم تحدث مواجهات كبيرة مع أي ميليشيات مسلحة، كما لم تُكبَح مهام وصلاحيات أي ميليشيا. وقد ذكر النظام بوضوح منذ بداية "الحملة الأمنية" أنه لا يريد الاشتباك مع الميليشيات، كما ظهر جليّاً من خلال تكليفه لإدارة المرور في وزارة الداخلية بتنفيذ الحملة. وعلى الرغم من أن إدارة المرور تحظى بدعم دوريات مشتركة من عدد من الأجهزة الأمنية، إلاّ أنها لا تزال تتمتع بسلطات وقدرات محدودة؛ وبالتالي لا يمكنها مواجهة حتى أصغر الميليشيات المحلية. القوات المسلحة وحدها القادرة على ذلك، وهي مشغولة في القتال جنباً إلى جنب مع الميليشيات الموالية على الجبهات.
في 2 تموز/ يوليو، وقع انفجار في ميدان التحرير في العاصمة دمشق، مما أسفر عن سقوط عدد من الضحايا. ولم تعلن أية جهة مسؤوليتها عن الحادث الذي من المحتمل أنه كان بمثابة رسالة إلى النظام لوقف حملته الأمنية على الرغم من نتائجها المتعثرة وذلك وفقاً لما تقوله مصادر مؤيّدة للنظام. وفي الواقع فقد توقفت الحملة بعد الانفجار مباشرة.
بعد أن قوبلت النتائج المحدودة للحملة الأمنية بخيبة أمل بين أنصار النظام، نُظِّمَ احتجاج في المنطقة الصناعية في حلب في 6 تموز/يوليو للتنديد بممارسات الميليشيات الموالية. وفي اليوم نفسه، نُظِّمت مظاهرة مماثلة في بلدة نبُّل الشيعية في ريف حلب الشمالي، وطالبت النظام بوضع حدّ لعمليات السطو المسلح التي ترتكبها الميليشيات وإزالة الحواجز العسكرية. أصبحت الخطوط التي تفصل سلطة الدولة عن سلطة الميليشيات غير واضحة وسط عملية عسكرة المجتمع السوري الشديدة الاستقطاب. تبدو الدولة والميليشيات في سوريا اليوم أشبه بالتوأمين الملتصقين الذين لا يمكن فصلهما دون قتل أحدهما.