من دون ضمان إعادة بناء القطاع الزراعي بصورة عادلة ومستدامة، فإن الاقتصاد السوري المهشًّم أصلاً، والمجتمع السوري الممزّق، سوف يواصلان تفكُّكهما.
لقد تضرّر القطاع الزراعي في سوريا بصورة بالغة من جرَّاء الصراع والتغيّر المناخي.
ووفقاً للأرقام الرسمية، في عام 2006، وفَّرت الزراعة فرص العمل لِـ 19.5 ٪ من القوى العاملة في البلاد، في حين تشير تقديرات أخرى إلى أنَّ هذا الرقم بلغ 40-50 ٪. وقد أدَّى الصراع إلى خسائر مباشرة كبيرة في هذا القطاع، وبحسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (FAO)، بلغت التكلفة المالية للأضرار والخسائر 16 مليار دولار أمريكي بنهاية عام 2016، ومع استمرار العنف خلال العامين الماضيين من الصراع، من المرجح أن تزيد تكلفة التعافي إلى ما يتجاوز الرقم الذي حددته المنظمة.
لقد أدى تصاعد العنف على مدى ثماني سنوات من الصراع إلى مفاقمة المشاكل في القطاع الزراعي في البلاد، فقد فتحت عقود من سوء إدارة الدولة الممنهجة الباب أمام الهجرة قبل الحرب والأزمة الإنسانية التي إذا لم تؤخذ في الاعتبار في خطط ما بعد الصراع، فإنها ستؤدي حتماً إلى المزيد من عدم الاستقرار.
وبوصفها ركيزة للاقتصاد السوري في مرحلة ما قبل الحرب، شكلت الزراعة أكثر من خُمس الناتج المحلي الإجمالي الوطني. فقد استثمرت الحكومة السورية بكثافة في هذا القطاع لتحقق الاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية الرئيسية وتتجنَّب الاعتماد على المساعدات الخارجية. وكان لدى الحكومة “احتياطي استراتيجي” من القمح، وصل إلى حوالي 3.5 مليون طن، وهو ما يكفي البلاد بأكملها لمدة عام واحد. وقبل اندلاع الانتفاضة، كانت سوريا تعتبر واحدة من كبار المصدِّرين للحبوب والفاكهة والخضروات إلى الدول المجاورة ودول الخليج.
إلاَّ أنَّ السياسات التي أدت إلى الاكتفاء الذاتي الذي لم يدم طويلاً كانت مُثقَلَةً سياسياً وقصيرة النظر، وكما هو الحال مع معظم الخدمات في جميع أنحاء البلاد، كانت الزراعة تعتمد بشكل كبير على دعم الدولة وإدارتها. وقدَّمت الحكومة المستلزمات المدعومة بما في ذلك البذور والأسمدة والوقود، لكنها حددت أيضاً حصص الإنتاج واحتكرت شراءها. ودأبَت الدولة بصفةٍ سنوية على شراء 80 ٪ من محصول القمح بالأسعار التي حددتها.
بالإضافة إلى ذلك، ركزت سياسات المياه الجوفية على المكاسب الزراعية الفورية، دون النظر على النحو المناسب في الأثر الطويل الأجل للاستنفاد المطّرد لهذا المورد. وقد رعت الحكومة التوسُّع في الأراضي الزراعية وضاعفت تقريباً المساحة (3 ملايين هكتار) بحلول عام 2000، لذلك فإن نحو90 ٪ من المياه استُجرَّت من طبقات المياه الجوفية والبحيرات والأنهار لأغراض الزراعة، حيث استهلك المزارعون كميات كبيرة من المياه لريّ هذه الأراضي الزراعية الشاسعة، مما أدى إلى استنزاف الإمدادات بشدة.
وأدت سياسات الدولة التي تجاهلت الإجهاد الذي تعرّض له المخزون المائي إلى حدوث أزمةٍ وضعت المزارعين في ظروف هشَّةٍ للغاية عندما انحبست الأمطار في عام 2006. واستجابةً للجفاف، قررت الحكومة إلغاء دعم الوقود من أجل تأمين الأموال لتغطية تكاليف ضخ المياه من قبل المزارعين، وفي الوقت نفسه أعادت تركيز جميع جهودها على تطوير المدن الحضرية.
وعلى الرغم من الفوائد البيئية، فإن التخفيضات في دعم الوقود زادت تكاليف الري ونقل المنتجات للمزارعين. ونظراً لتراجع الدخل بسبب انخفاض العوائد، إلى جانب تكاليف الإنتاج الباهظة، لم يعد المزارعون في سوريا قادرين على تغطية نفقاتهم.
كما أدى سوء الإدارة الحكومية والتخلي عن المناطق الريفية في نهاية المطاف إلى الهجرة الجماعية نحو المناطق الحضرية، مما أثَّر بشكل كبير على القطاع الزراعي والظروف الاجتماعية والاقتصادية العامة؛ وتُرِكَ الكثير من الأراضي الصالحة للزراعة دون اهتمام بفعل انتقال السكان، كما ارتفع معدل البطالة الناجم عن ذلك لأن المزارعين السابقين كانوا يفتقرون إلى المهارات المطلوبة في الصناعات الحضرية.
وبحلول عام 2016، وهو العام السادس للصراع السوري، اشتمل تقييم منظمة الأغذية والزراعة للأضرار على الخسائر المادية في أنظمة الري ومرافق التخزين والمعدات الزراعية. كما دُمِّرت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية أثناء القتال -عمداً في بعض الحالات- أو تم التخلي عنها من قبل المزارعين الذين فرُّوا بحثاً عن الأمان.
وأدى انعدام الأمن المتزايد إلى توقُّف حركة التجارة والتوريد مما تسبب بنقص في الأسمدة والكهرباء والقوِى العاملة. وبذلك استمرت عائدات الإنتاج في الانخفاض بسرعة وبشكل ملحوظ، مع استمرار الجفاف الذي أدى إلى تفاقم الوضع المُزري أصلاً. واستناداً إلى البنك الدولي، انكمش إجمالي الناتج المحلي الزراعي بنسبة 41 ٪ في عام 2015 مقارنة بمعدل ما قبل الصراع.
وقد أثَّرت الأطراف المتحاربة أكثر على الإنتاج الزراعي وعلى القطاع الزراعي بمُجمَلِه، كذلك فرضت الجماعات المسلحة ضرائب على المنتجات لزيادة مداخيلها، في حين أن تكتيكات الحكومة السورية في الحصار قد خنقت مناطق من سلسلة الإمداد الإنتاجي، مما جعل السكان غير قادرين على إنتاج طعامهم.
ومما فاقم الأمور سوءاً قيام الحكومة بتوجيه موارد الدولة إلى المجهود الحربي، فضلاً عن فقدانها إمكانية الوصول إلى الأراضي الزراعية، مما قلل من شراء المحصيل الزراعية، وهو ما أثَّر بشكل خطير على المزارعين بفقدانهم المشتري الرئيسي. وبذلك فقد تم ضخُّ المزيد من المنتجات في السوق، ومع انخفاض عدد المشترين، تراجعت الأسعار، مما تسبب في خسائر فادحة في دخل العديد من العائلات ودفع العديد من مورِّدي المواد الغذائية إلى فقدان الأمن الغذائي.
علاوة على ذلك، وقعت العديد من جبهات المعارك في المزارع الريفية أو حولها، مما أدى إلى خسائر كبيرة في العائلات ضمنَ هذه المناطق ومصادرة أراضيهم من قبل الأطراف المتحاربة، واضطر الآلاف إلى الفرار تاركين أرضهم وسبُلَ رزقهم. وبالنسبة لأولئك القادرين على البقاء في أراضيهم، أدى ارتفاع تكلفة الإنتاج إلى إعاقة قدرتهم على النمو بما يكفي لتوليد الدخل وإطعام أسرهم. واعتباراً من عام 2017، أنفق السوريون أكثر من 50 ٪ من دخلهم على الغذاء مقارنة بـ 25٪ قبل اندلاع الصراع.
وثمة جهود جارية في الوقت الحالي من قبل وكالات دولية مختلفة لإحياء القطاع الزراعي، وهو قطاعٌ على الرغم من كل الضرر الذي لحق به، إلاَّ أنه يُشغِّل في الوقت الراهن 16 ٪ من القوى العاملة المتبقية (5.5) مليون، وتقوم المنظمات الدولية مثل منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي بتنفيذ مشروعات في المناطق التي يمكن الوصول إليها للتخفيف من ندرة الأغذية الأساسية عن طريق تدريب المزارعين، وتقديم الدعم لبعض تكاليف إعادة التأهيل وتقديم المستلزمات. كما تركز المنظمات غير الحكومية السورية والدولية بشكل متزايد على مشاريع سُبل العيش التي تساعد في دعم الأسر في المناطق الصالحة للزراعة. إلاَّ أنَّ جميع المساعدات الحالية لا تزال محدودة في نطاقها وقدرتها.
ومن غير الكافي تعويض الأضرار والخسائر البالغة 16 مليار دولار، فالزراعة تُعدُّ عنصراً مهماً في اقتصاد سوريا وثقافتها وسبُل عيشها، وبدون بذل جهود متواصلة لإعادة هذا القطاع بطريقة مستدامة، قد يواجه السوريون في وقت قريب أزمة انعدام أمن غذائي خطيرة وبطالة كبيرة، وكلتاهما ستُحفِّزان إعادة إشعال الصراع.
وإلى جانب الاحتياجات الفورية، يُعدّ تغير المناخ أيضاً مصدر قلق كبير للإنتاج المستقبلي وجبَت معالجته بشكل مناسب، ولكن إجراءات الدولة كانت ضعيفة وغير كافية. لذلك، يجب مراجعة السياسات لتحسين دعم الزراعة السورية على المدى الطويل.
لقد دفع سوء إدارة المياه والموارد الناس إلى الخروج من المناطق الريفية وتسبب في أزمة إنسانية ما قبل الحرب. وبالنسبة لجهود الإنعاش المستقبلية، تجب معالجة سوء الإدارة هذا لمنع المزيد من تهميش سكان الريف. وعلى الرغم من أن النزاع لا يزال مستمراً، إلا أن وكالات الإغاثة يمكن أن تزيد من برامجها وتبذل جهوداً متضافرة للابتعاد عن تقديم المساعدات العينية إلى توسيع نطاق دعم سُبل العيش في الزراعة. ومن شأن هذا المساعدة في تطوير وإعادة تأسيس القطاع وتوفير فرص العمل للعديد من السوريين.
ولَئن قرَّب القطاع الزراعي السوري البلاد من حالة الاكتفاء الذاتي ووظَّف قسماً كبيراً من السكان في وقتٍ سابق، فإنه اليوم مثال على التهميش الذي تعاني منه المجتمعات الريفية السورية، وهو يمثل السياسات الحكومية المنحازة التي أدت في نهاية المطاف إلى تجزئة المجتمع السوري على امتداد الخطوط الحضرية والريفية، مما اضطر الآلاف من المزارعين السابقين إلى التخلي عن أراضي أجدادهم بحثاً عن سبل عيشهم في المدن وهم يفتقرون إلى المهارات المطلوبة مما اضطرهم إلى قبول أي عمل لإعالة أسرهم.
وبدون ضمان إعادة بناء القطاع الزراعي بصورة عادلة ومستدامة، فإن الاقتصاد السوري المهشًّم أصلاً، والمجتمع السوري الممزّق، سوف يواصلان تفكُّكهما، مما يؤدي إلى تفاقم الانهيار الحضري والريفي وزيادة تهميش المجتمعات الريفية. إن القطاع الزراعي ليس فقط قطاع رئيسي، بل هو أيضاً عامل مهم في العدالة والمصالحة.