الخيارات الصعبة للثوار السوريين النازحين داخليّاً

  • حايد حايد

    Consulting Fellow, Middle East and North Africa Programme, Chatham House

    زميل مشارك استشاري، برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

منذ سقوط حلب الشرقية في كانون الأول / ديسمبر الماضي، تمكَّن النظام السوري من استعادة سيطرته على محافظات مختلفة مثل حلب وحمص وريف دمشق، وذلك من خلال سلسلة من صفقات التهجير القسري. تسمحُ هذه الاتفاقيات للنظام باستعادة سيطرته الرمزية على المناطق التي يسيطر عليها الثوار مقابل إنهاء عملياته العسكرية والسماح لمن لا يوافقون على الصفقة بالمغادرة. وفي حين وافق بعض المقاتلين الثوار، فضلاً عن المدنيين، على إنهاء أنشطتهم المناهضة للنظام حتى يتمكنوا من البقاء في بيوتهم، لم يكن لدى المنشقّين الآخرين خيار سوى الانتقال إلى شمال سوريا، واضطر المقاتلون النازحون إلى اتخاذ قرارات صعبة بشأن ما إذا كانوا سيواصلون القتال أم لا، ومع من يقاتلون وأين وضدّ من.

كان نزوح المقاتلين قد بدأ  في نيسان / أبريل 2011 عندما باشر الجنود بالتحرك إلى مناطق مختلفة بعد انشقاقهم عن الجيش السوري احتجاجاً على قتل المدنيين. كانت الخيارات في ذلك الوقت بسيطة: إمَّا الاختباء وربما المشاركة في المظاهرات السلمية، أو الانضمام إلى مظلة الجيش السوري الحر التي أُنشئت أصلاً لحماية المدنيين والقتال ضد النظام. وكان الجنود الذين اتخذوا أياً من القرارين يتمتعون بمستوى عالٍ من التضامن والدعم المجتمعي بين أولئك الذين كانوا يحتجُّون ضد النظام. لكن التشرذم والفساد والقتال الداخلي في الوقت الراهن في أوساط بعض جماعات الثوار، والخيوط القوية المرتبطة بالدعم الموجه إليهم، جعلت قرارات المقاتلين المُهَجَّرين بشأن ما يجب القيام به بعد ذلك أكثر صعوبة من أي وقت مضى.

ويُسمح عادة للمقاتلين من الثوار الذين تم اخلاؤهم بالقوة أن يحتفظوا بأسلحتهم الخفيفة مقابل التخلي عن أسلحتهم الثقيلة. ولكن هذا الانخفاض الكبير في القدرات والموارد يؤدي عموماً إلى فقدان نسبة من جنودهم. كما يجلب الانتقال إلى منطقة جديدة أيضاً مشاكل تقليدية من قبيل تأمين السكن وتوفير الاحتياجات الأساسية. وفي بعض الأحيان تُحدد الإجابات بشأن كيفية الوفاء بتلك الاحتياجات مصير بعض المقاتلين. كما أوضح الناشط السوري مصطفى عبد الله، الذي يقيم في شمال سوريا أنَّ الأموال التي يكسبها المقاتلون، والتي لا تزيد عادةً عن 100 دولار في الشهر، لا تكفي للطعام والإقامة، “ولهذا السبب يعطي بعض المقاتلين الأولوية لتأمين احتياجاتهم الأساسية من خلال القيام بعملٍ آخر غير القتال “.

كما تساهم الاختلافات الأيديولوجية أيضاً في طريقة التعامل مع المقاتلين المهجَّرين. وتُعتَبَرُ معظم الفصائل التي نزحت إلى الشمال السوري الذي يُعدّ منطقة نفوذ جبهة فتح الشام التابعة لتنظيم القاعدة  (والتي كانت تُعرف سابقاً بجبهة النصرة)، قريبةً إذا لم تكن منتسبة إلى الجيش السوري الحر. وترى جبهة فتح الشام في اعتدال هذه الفصائل ما يشّكل تهديداً، مما يؤدي إلى مواجهات مع تلك الفصائل بحسب أحمد حسين، وهو ناشط إعلامي في شمال سوريا. ونتيجة لذلك، قرر بعض المقاتلين التوقف عن القتال خوفاً من الاضطهاد على يد جبهة فتح الشام.

على سبيل المثال، كان فصيل شُهداء داريا، وهو فصيل مُهجَّرٌ قسراً من داريا إلى إدلب قد تعرّض للهجوم في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي من قبل جبهة فتح الشام التي اعتقلت أيضاً 10 من ثوار داريا وصادرت أسلحتهم واثنتين من سياراتهم بسبب ارتباط الفصيل مع المانحين الغربيين. وبالمثل، فقد هاجمت جبهة فتح الشام مجموعات أخرى مثل مجموعة فاستقِم كما أُمِرت، التي نزح العديد من أعضائها من شرق حلب إلى إدلب، بسبب اتهامات مماثلة،  ودفعت الجماعة باتجاه إما تفكيكها أو إجبارها على الاندماج مع جبهة فتح الشام.

كذلك فقد دفع الفساد وعدم وجود هيكل موحد، والاقتتال الداخلي بين جماعات المتمردين، ببعض المسلحين إلى إعادة النظر في خياراتهم. “كانت صدمة كبيرة لرؤية العدد الكبير من المقاتلين والكميات الهائلة من الأسلحة المتاحة في إدلب، ومع ذلك لم يتم القيام بأي شيء لمساعدة المناطق الأخرى التي تتعرض للهجوم.” نحن، في داريا، لم نكن نملك ولو جزءا صغيراً مما لديهم، ومع ذلك فقد تمكنّا من محاربة النظام لسنوات.  هؤلاء لم يحاولوا حتى إنقاذ الناس في شرق حلب. وقال أحد المقاتلين السابقين من داريا الذي طلب عدم الكشف عن هويته: “حينها توقفت عن القتال لأنّه أصبح من الواضح لي أنّ كل هذه الجماعات مهتمة بكيفية كسب المال حتى على حساب قتل بعضهم البعض”.

تتحكَّمُ طبيعة الصراع بالوكالة التي يتسِّم بها النزاع السوري بالدعم الموجَّه إلى مجموعات بعينها في مناطق محددة ولخدمة مصالح معيّنة. ولذلك، فإن المقاتلين الذين يُجبرون على مغادرة مناطقهم قد لا يحصلون على نفس الدعم في أماكن أخرى. ولا يخفي بعض داعمي الثوار شروطهم التي تتعلّق بتقديم الدعم، والتي تتلخّص في جملةٍ مفادها: هذا ما لدينا، فإما أن تقبلوا أو ترفضوا. كان برنامج الولايات المتحدة للتدريب والتسليح بهدف محاربة داعش يوجّه دعمه لجماعات الثوار التي توافق على محاربة داعش حصراً. ولذلك، فإن الانتقال إلى منطقة جديدة قد لا يتماشى مع مصلحة الرّاعي ما يؤدي إلى خفض أو إنهاء دعم المجموعة، الأمر الذي يدفع المقاتلين للبحث عن مجموعات بديلة للانضمام إليها. وعلى نحوٍ مماثل، فإن عملية درع الفرات بقيادة تركيا في شمال سوريا تعطي الأولوية لمحاربة داعش والقوات السورية التي يقودها الأكراد.  ونتيجة لذلك، لا يُسمح للمقاتلين الثوار الذين ينتقلون إلى المناطق الخاضعة لسيطرة درع الفرات بمحاربة النظام السوري، الأمر الذي قد يدفع أيضاً الكثير ممّن يعتبرون الأسد عدوهم الأول إلى التوقف عن القتال.

وعلى النقيض من ذلك، قد يفتح التهجير فرصاً جديدة لجماعات الثوار التي ترفض التخلي عن القتال. كان فصيل أسود الشرقية قد شُكِّلَ من قِبل المقاتلين الفارين من محافظة دير الزور بعد سقوطها بيد داعش في عام 2014. واندمج العديد من الجماعات المنفية معاً في الجنوب في آب / أغسطس 2014 لمحاربة كلٍّ من داعش والنظام السوري. وقد أدى تزايد التركيز الأمريكي على القضاء على داعش في شرق سوريا إلى زيادة الدعم الموجه إلى الجماعات التي تقاتل التنظيم  هناك. وكذلك فإن وجود فروع لمجموعاتهم في المناطق التي تم إجلاؤهم إليها قد ساعد الثوار على مواصلة القتال. وكان لدى العديد من مجموعات الثوار الذين أُجبِروا على الخروج من حلب قواعد عسكرية في شمال سوريا، وهو الأمر الذي خفَّف من صعوبات التهجير. وباختصار، فإنَّ مصير بعض الثوار المهجَّرين يتحدّد من خلال سلسلة من الخيارات المترابطة، ولكن الواقع على الأرض جعل هذه الخيارات تأتي على حسابهم في بعض الأحيان.