الاستقرار بأي ثمن؟ التنمية القائمة على التهريب في مدينة الكفْرة الليبية

  • تيم إيتون

    Senior Research Fellow, Chatham House

    زميل أبحاث أول، تشاثام هاوس

تطرح مسألة الكفْرة أسئلة صعبة أمام صانعي السياسات فيما يخص التدخلات التي يجب دعمها في الأماكن التي تزدهر عبر التجارة غير المشروعة عبر الحدود.

تُعد مدينة الكفرة الليبية مركزاً تجارياً مهماً للبضائع التي تعبر خطها الحدودي مع السودان وتشاد، ومنذ عام 2011، أصبح تهريب البشر يلعب دوراً في التنمية الاقتصادية للكفرة واستقرارها العام يتّسم بالتعقيد، ما يضع صانعي السياسات الغربيين أمام نتائج غير متوقعة.

النزاعات الأهلية

يتألف سكان الكفرة من مجموعتين رئيسيتين هما العرب والتبو، ويبلغ عدد أفراد المجموعة العربية في الكفرة حوالي 55000 شخص، منهم حوالي 42000 من قبيلة الزوَيّة، و 5000 من قبائل غيرها، بينما يبلغ عدد أفراد التبو الأصليين في المدينة حوالي 8000 شخص.

وثمّة خلافات قديمة العهد بين هذه المجتمعات المحلية وداخلها، ولئن اتّحدت المجتمعات المحلية في الكفرة في دعمها للإطاحة بنظام القذافي عام 2011، إلا أنها لم تتفق على ما يلي ذلك. فبينما سعى أبناء التبو إلى تمثيلٍ أوسع في الحكومة المحلية، أراد أبناء قبيلة الزويّة الحفاظ على التفرّد بالسيطرة على نظام الحكم المحلي.

وللانقسامات داخل المدينة شكلَها الملموس والمجازيّ أيضاً، إذ تنقسم المناطق السكنية بين التبّو والزويّة من جهة، بينما تنقسم مناطق الزويّة السكنية بحسب الفروع العائلية للقبيلة. وكان نظام القذافي قد طوّر العديد من المناطق السكنية المختلطة وسعى إلى دمج المجتمعات في مدارس المدينة، إلا أن الانقسامات ازدادت حِدّة بعد الثورة.

في عام 2014، واستجابة لطلب مجتمع التبّو المحلي بزيادة التمثيل السياسي، وافقت الحكومة المؤقتة في شرق ليبيا على إنشاء سلطة حكم محلي منفصلة في الكفرة وواحة ربيانة. وساهم ردّ أبناء مجتمع الزويّة المحلي على هذا الإجراء الذي رأوا فيه تهديداً لهم في اندلاع أعمال عنف كبيرة يُعتقد أنها تسببت بمقتل أكثر من 100 شخص وتشريد المئات.

وقد مكّن النصر العسكري أفراد الزوية من السيطرة على قطاع الأمن المحلي، وأصبحت مديرية الأمن في المدينة، وهي أشبه ما تكون بجهاز الشرطة، وكذلك الفصيل المسلح المهيمن، سُبُل السلام – التابع للقوات المسلحة العربية الليبية بقيادة خليفة حفتر – فصائل مسلحة لمجتع الزويّة لا تشمل أقليّة التبو في الكفرة. كما فشل أبناء التبو في تحقيق أهدافهم السياسية، إذ جرى في عام 2017 تحويل مجلسهم المحلي الموازي إلى لجنة تابعة لسلطة مجلس بلدية الكفرة الذي يديره أفراد الزويّة.

تطوّر التجارة عبر الحدود

في الفترة الواقعة بين الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أُنجِزَ  أكثر من 50 مشروعاً زراعياً كبيراً في الكفرة، مما أدى إلى ترسيخ الزراعة عنصراً أساسياً في الاقتصاد المحلي، إلا أن تأثير الحرب مع تشاد المجاورة في الفترة (1978-1987) جعل من الكفرة منطقة عسكرية. بالإضافة إلى ذلك فإن الجزاءات الدولية التي فُرضت في أعقاب كارثة لوكربي حالت دون أن تتمكّن مشاريع الكفرة الزراعية من تأمين قطع الغيار اللازمة ما تسبّب بتردّي أوضاع العديد منها،

وبدلاً من مواصلة العمل في المشاريع الزراعية، لجأ الناس إلى التهريب عبر الحدود كمصدر سريع للدخل. كانت الكفرة تاريخياً نقطةً حيوية للقوافل التجارية من مملكتَي وداي وكانيم بَرنو الأفريقيتين إلى مصر، وساهم تهريب الإلكترونيات وواردات الماشية خلال عهد القذافي في تمتّع سكان الكفرة برفاهية اقتصادية نسبية. وقد شجعت سلطة الجمارك هذه الأنشطة شِبهُ المشروعة التي جاء العاملون فيها من المدن الكبرى مثل طرابلس ومصراتة للتنافس على العمل في معبر العوينات الحدودي الصحراوي المربح.

تهريب البشر والاتجار بهم: من الصراع إلى التعاون

في الفترة الممتدة بين عام 2012 إلى عام 2015، شهدت الكفرة تنافساً شديداً بين أبناء الزوّية والتبو للسيطرة على المعابر الحدودية والطرق الصحراوية. وفي عام 2012، في محاولة للتفرّد بالسيطرة على الاقتصاد المحلي عبر الحدود، حفر أبناء الزويّة خنادق رملية كبيرة حول الكفرة للحد من التجارة عبر الحدود التي يديرها أبناء التبو، مما جعل من المستحيل الدخول والخروج من الكفرة دون عبور نقاط تفتيش ثابتة.

وأدى هذا الحصار الناجع لتجارة التبو إلى تأجيج النزاع المسلح بين قوات التبو وقوات الزويّة وأعاق تطوير قطاع الاتجار بالبشر وتهريبهم في الكفرة. ومع ذلك، بعد توطيد سيطرة الزويّة على الكفرة في عام 2015، استمر التعاون الاقتصادي مع التبو بدافع الضرورة.

وبينما تمكّن فصيل سُبُل السلام الذي يهيمن عليه أبناء الزويّة من احتكار السيطرة على الطرق الصحراوية من الكفرة إلى الحدود السودانية، إلا أن الطريق إلى شمال شرق ليبيا ظلّ صعب الاستخدام نتيجة للوضع الأمني في الشمال الغربي. وبالتالي كان على أبناء الزويّة عقدُ صفقات مع التبو لتأمين حركة المهاجرين غير الشرعيين شرقاً عبر واحة ربيانة التي يهيمن عليها التبو وما يليها عبر منطقة فزّان. وبحلول أوائل عام 2017، كانت شبكات تهريب البشر والاتجار بهم تعمل بحرية عبر هذه الطرق.

وبرغم التوترات المستمرة، يبدو أن الانخراط النافع للطرفين في تهريب البشر والاتجار بهم كان في الواقع مصدراً للاستقرار بين الفصائل المتناحرة في الكفرة.

تمويل قِطاع التهريب للبلديات

أدّى الدخل المتولد من قطاع التهريب إلى تحسّن في نوعية حياة سكان الكفرة، ويرجع ذلك جزئياً إلى إنشاء صندوق إعمار الكفرة في عام 2017، الذي أنشأه المجلس البلدي الذي يسيطر عليه أبناء الزويّة لتوفير إطار لتوسيع مشاركة سُبُل السلام في الاقتصاد. وقد تفاوضت النخب المحلية في الزويّة على تأسيس صندوق إعمار الكفرة الذي مثَّل في الواقع اتفاقاً لتقسيم الإيرادات من الضرائب المتأتية عن التجارة عبر الحدود بين فصيل سُبُل السلام والمجلس البلدي المحلي. وفي مواجهة محدودية الدعم المقدّم من الحكومة الوطنية وتقطّعه، يُعدّ هذا مثالاً عن اللامركزية التي تختلف تماماً عن تلك التي يتوخاها المانحون الغربيون.

ولا يوفّر صندوق إعمار الكفرة أي غطاء قانوني بموجب القانون الليبي، كما لا تتمتع المجالس البلدية بسلطات لفرض ضرائب على حركة النقل، وفي معظم الأحيان تكون المنقولات سلعاً غير مشروعة، إلّا أن هذه الصيغة هي الحلّ المحلي للتخفيف من وطأة نقص الموارد التي تقدمها الحكومة المركزية.

استقرار مغمّسٌ بالعنف

يُلحِق تهريب البشر والاتجار بهم أضراراً جسيمة بالمهاجرين الذين يعبرون منطقة الكفرة التي يُعرف مركز الاحتجاز فيها بسوء سُمعته لناحية انتهاكات حقوق الإنسان على نطاق واسع. ولكن بالنسبة للسكان المحليين، يقوم القطاع أيضاً برفع مستويات المعيشة وإنشاء نظام ناجع إلى حد كبير – وإن كان غير قانوني تماماً – للتنمية البلدية.

وبرغم أنّ النزاع بين مجتَمَعَي الزويّة والتبو بشأن مِلكية الأجداد للمنطقة لا يزال دون حل، يبدو أن الروابط التجارية في قطاع تهريب البشر توفر أكثر الأمثلة وضوحاً على الروابط العملية بينهما.

وتبين هذه التطورات أن الاستقرار – أو مجرد غياب القتال – لا يعني بالضرورة غياب الصراع، وفي الواقع، إن نوع الاستقرار الذي شهدته الكفرة مغمّس في العنف، سواء كان العنف البنيوي في ما يتعلق باستبعاد أقلية التبو أو المباشر في ما يتعلق بالعنف الذي يتعرّض له المهاجرون غير الليبيين.

فالاستقرار الأقل عنفاً يتطلب مجموعة من البدائل الاقتصادية التي تُغني عن العمل في التجارة غير المشروعة كما يتطلب مصالحة اجتماعية تبدو الآن أبعد من أي وقت مضى منذ عام 2011. تطرح مسألة الكفْرة أسئلة صعبة أمام صانعي السياسات لناحية التدخلات التي يجب دعمها في الأماكن التي تزدهر من خلال التجارة غير المشروعة عبر الحدود.

أُعِدت هذه المقالة من قبل تشاتام هاوس لبرنامج الأبحاث المعروف باسم مشروع أدلة النزاع العابر للحدود وسياساته واتجاهاته (XCEPT) بتمويل من معونة المملكة المتحدة من حكومة المملكة المتحدة. ولا تعكس الآراء المُعرب عنها بالضرورة السياسات الرسمية لحكومة المملكة المتحدة.