يبدو أن التعيينات الجديدة التي أجراها الرئيس الأسد محاولة لضمان الولاء للقصر الرئاسي وتجنُّب أي تهديد قد تنطوي عليه التأثيرات الخارجية، لا سيّما من قِبَل روسيا وإيران.
منذ إنشائها من قبل الرئيس السابق حافظ الأسد، اشتهرت أجهزة الأمن السورية بوحشيتها وتغلغلها في جميع جوانب الحياة في سوريا. وقد كانت هذه البنية بمثابة السبب الرئيسي لبقاء النظام السوري، وفي بعض الأحيان بفضل الدائرة الضيّقة والقوية التي أنشأها حافظ الأسد على أساس الولاءات والطائفية.
وقد لعِبت هذه الهيكلية دور الداعم الرئيسي على أساس المنفعة المتبادلة، فقد منَحَ الأسد لقادة تلك الأجهزة ميزة البقاء الطويل الأجل في مناصبهم مقابل حمايتهم للحكومة. وعلى الرغم من أن الأسد الأب اعتمد على هذا النظام، إلا أنه كان حذراً للغاية بشأنه، ويقال إنَّه لم يسمح لقادة الأجهزة الأمنية أن يكونوا في مكان واحد أثناء حكمه.
ورث بشار الأسد هذه الهيكلية الأمنية الصارمة التي بناها والده على مدار ثلاثة عقود، ولم تتغيّر التركيبة الأمنية خلال حكم بشار الأسد، فقد ظل هشام بختيار رئيساً لمكتب الأمن القومي، وكان آصف شوكت مديراً للمخابرات العسكرية ونائباً لوزير الدفاع فيما بعد، بينما كان جميل حسن مديراً للمخابرات الجوية مع قادة آخرين مثل جامع جامع الذي كان يُشتبه في اغتياله لرئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وقد توفّي في وقت لاحق خلال الأحداث في دير الزور.
اهتزت هذه الأجهزة الأمنية مع بداية الأزمة السورية بسبب الاحتجاجات الشعبية ولم تعد قادرة على احتوائها أو قمعها، وذلك على الرغم من صلاحياتها غير المحدودة. وأصبح من الواضح أن الأجهزة الأمنية غير قادرة على حماية النظام بمفردها أو حتى بمساعدة الجيش السوري على الرغم من الأموال الباهظة التي تنفقها الدولة السورية على هذه الأجهزة.
كانت عملية اغتيال ما يسمى "خلية الأزمة" في عام 2012، التي أودت بحياة كل من آصف شوكت وهشام بختيار، بمثابة ضربة لعصب الأجهزة الأمنية السورية وذلك بسبب دور وخبرة الرجلين في إدارة الأزمة. وقد واصل الجهاز الأمني نزيفه لفترة طويلة، لا سيّما مع مقتل جامع جامع، رئيس الأمن العسكري، تلاه مقتل رئيس الأمن السياسي في الجيش السوري رستم غزالة.
وفي مواجهة هذا الاستنزاف المقلق داخل جهاز الأمن السوري، كان النظام في وضع محفوف بالمخاطر بسبب اعتماده الرئيسي على الصف الأول من ضباط الأمن السابقين. كذلك أُصيب الهيكل الأمني بمزيد من الضعف بسبب مرض جميل حسن، رئيس المخابرات الجوية، أحد أهم فروع الأمن السورية، وهو ما فتح الباب أمام ظهور قادة أمنيين جدد لملء الفراغ.
بعد حادثة عام 2012، تبنى النظام الأمني السوري نهجاً جديداً يقوم على مركزية الأمن، إذ أُنشِأ هيكل أمني جديد، وخصوصاً في ضوء النزاع الروسي الإيراني حول تقسيم الأجهزة الأمنية.
في 7 تموز/يوليو 2019، قام الرئيس الأسد بتعيينات أمنية جديدة كان أبرزها تعيين علي مملوك نائباً لرئيس الجمهورية للشؤون الأمنية واللواء محمد ديب زيتون رئيساً لمديرية المخابرات العامة.
تزامنت هذه التعيينات مع تغييرات أمنية جديدة أخرى، فقد أصبح كفاح ملحم، الذي كان معروفاً ببطشه وعنفه ضد المتظاهرين، رئيساً للمخابرات العسكرية على الرغم من أنه لا يتمتع بخبرة أمنية متقدمة. وتولَّى ناصر العلي، غير المعروف بعمقه الأمني أو خبرته الأمنية، مسؤولية إدارة الأمن السياسي، وتولَّى حسام لوقا، وهو ضابط شركسي من دمشق يحظى بقبول واسع على مستوى القصر الرئاسي، مسؤولية أمن الدولة السورية. وخلَفَ اللواء غسان إسماعيل جميل حسن في المخابرات الجوية. كما أضيفت إلى هذه الأجهزة الأمنية الأمانةُ العامة للدفاع الوطني، التي يرأسها اللواء بسام حسن، وهي هيئة أُنشِئت في ضوء الأزمة بغرض جذب المتطوعين المدنيين على اعتبار أنهم لم يثقوا في الأجهزة الأمنية السابقة.
وما يثير الاهتمام في هذه التعيينات أنه ولأول مرة في تاريخ الأجهزة الأمنية السورية، جرى تعيين شخصين من نفس منطقة طرطوس (من قرية دوير رسلان)، هما كفاح ملحم وغسان إسماعيل؛ وهما في الواقع يرتبطان بقرابةٍ عائلية من خلال الزواج من نفس العائلة، ويُعد هذا انقطاعاً عن نهج حافظ الأسد الذي منع تعيين شخصين من نفس المنطقة.
يتشارك كل هؤلاء الضباط من بين الوجوه الجديدة في الفضاء الأمني السوري ثلاثة أشياء: أولاً، لديهم صلات مباشرة مع اللواء علي مملوك الذي كان له الدور الأكبر في إنشاء هذه التشكيلة. ثانياً، هُم وجوه غير معروفة في الفضاء السوري ظهرت خلال الأزمة وحاولت التفوّق على بعضها البعض في العنف من أجل الوصول إلى السلطة، أو في أحسن الأحوال لم يكونوا معروفين في الدوائر الأمنية. وثالثاً، لدى كل منهم ملف فساد مختلف يجعل من الأسهل محاسبتهم من قبل قمة هرم السلطة في أي لحظة. وخلافاً للرأي الجازم بأن التغييرات الأمنية التي حدثت في دمشق كانت بسبب المنافسة الروسية الإيرانية، إلاَّ أن هذه التغييرات مرتبطة بصورة مباشرة بشخصين هما الرئيس السوري بشار الأسد وعلي مملوك.
من خلال هذه التغييرات الأمنية المحددة، يسعى النظام السوري إلى تجنُّب تكرار سيناريو الاعتماد على شخصيات من الصف الأول مثل هشام بختيار وآصف شوكت ورستم غزالة وغيرهم من أجل ربط خيوط الشؤون الأمنية في هذه المرحلة الحساسة من مراحل إنشاء الهيكل الأمني الجديد فقط بالقصر الرئاسي، ولكيلا يكون هناك نفوذ روسي وإيراني أكبر مما هو موجود حالياً.
في هذه الحالة، تريد مؤسسة الرئاسة أن تكون هي القوة الضاربة في سوريا التي تحد من قوة الجهاز الأمني بما يحول دون وجود بديل أمني ناشئ في سوريا. وهذا يعني عرقلة الدور الذي تسعى إليه القوى الكبرى في سوريا كوكلاء أمنيين قادرين على تنظيم الاستقرار في بلدٍ ما حينما يخرج من حرب وحشية. وهنا يكمن تفسير السبب الأساسي الذي يجعل الأسد يظل الممثل الوحيد الذي يضمن الاستقرار، بالنظر إلى أن البدائل الأمنية تحت السيطرة.
يُعدُّ هؤلاء وجوهاً غير مميزة في الحياة الأمنية السورية يقتصر تأثيرها على مهمة جمع المعلومات وتنفيذ الأوامر العليا فقط. وهذا يعني أن الأسد يعمل على كبح جماح الدائرة الأمنية من حوله من أجل تشديد قبضته على السلطة ومنع أي محاولات لإجراء تغييرات في النظام.