مع استعادة النظام السوري وحلفائه السيطرة على مناطق المعارضة في ريف دمشق، بدأوا بانتهاج تكتيكَين منفصلَين في محاولة القضاء على جيوب المقاومة. أحدُ هذين التكتيكَين هو إجبار جميع السكان على النزوح، وهو ما حدث في مناطق مثل داريا والزبداني. أمّا الآخر فهو "المصالحة الشاملة" المضلِّلة في الواقع، وهو مزيج من الترغيب والترهيب يستهدف إحلال سلطات محلية موالية للنظام محلَّ الهيئات الإدارية التي أنشأتها المعارضة.
جرى تنفيذ هذه النسخة من "المصالحة" في قدسيا والهامة والتل ومضايا وضواحي دمشق الشرقية وغيرها. وهو نهجٌ خطّي يرمي إلى تحويل المنطقة المحاصرة من منطقة معارضة إلى موالية، ويستوجب هذا النهج القبول به بكلّ ما فيه وطرد أي شخص مسلح ولا يقبل باشتراطاته، وتفكيك الهيئات السياسية والخدمية التي أنشأتها المعارضة بالقوة. ويُفضي هذا النهج إلى استيعاب المعارضة المسلحة السابقة في الميليشيات المحلية للنظام، ولا سيما قوات الدفاع الوطني، أو التجنيد الإلزامي في الجيش العربي السوري. كما يقتضي استعادة وكالات الخدمة الحكومية في مناطق المعارضة السابقة، لضمان توفير الكهرباء ومياه الشرب والمواد الغذائية والإمدادات الطبية – أي الاستسلام مقابل عودة الخدمات الأساسية.
فَرض "المصالحة"
في يوليو/ تموز 2016، أصدر الرئيس بشار الأسد المرسوم التشريعي رقم 15، الذي يُعدّ الأساس القانوني "للمصالحة". وهو يشمل العفو من "جميع العقوبات" لِمن "يسلّمون أنفسهم ويلقون أسلحتهم"، بما في ذلك "أي شخص حمل السلاح لأي سبب كان، وكان هارباً من العدالة أو كان مختبئاً". ويهدف المرسوم رقم 15، الذي تم تعزيزه من خلال عدد من المراسيم اللاحقة، مثل المرسوم رقم 32، إلى تشجيع عناصر المعارضة المسلحة على تسليم أنفسهم.
ويفرض النظام وجوب تطبيقه من أجل حل المجالس المحلية للمعارضة، وكثيراً ما يفرض قوائم بأسماء المنشقِّين المدنيين لإبعادهم إلى الشمال السوري. وينشط معظم أولئك الذين يتمّ تهجيرهم في تشكيل هيئات الخدمة المدنية ومجالس المعارضة المحلية ومنظمات المجتمع المدني. ويرى النظام أن مجالس المعارضة المحلية والمنظمات غير الحكومية التي ظهرت خلال فترة تراجع سلطة النظام بين عامي 2012 و 2016 هي من أكبر التهديدات لعودته إلى مناطق الثوار. وذلك لأن هيئات الخدمة المدنية هذه مكَّنت المعارضة والمجتمعات المحلية من التنظيم الذاتي، مما يوفر للسكان بديلاً حقيقياً لمؤسسات الدولة عندما يتعلق الأمر بتوفير الخدمات الرئيسية. على سبيل المثال، نصّت بنود المصالحة التي فرضها النظام في بلدةِ الهامة على تهجير جميع أعضاء المجلس المحلي، في حين اقتضى الاتفاق في وادي بردى تهجير جميع العاملين في المجال الطبي.
وفي هذا السياق، أصبح الدفاع المدني السوري، المعروف باسم أصحاب الخوذ البيضاء، هدفاً رئيسياً لدعاية النظام بسبب قدرته على تنفيذ إجراءات منظّمة باستقلالية أكثر من أي منظّمة محلية أخرى – وهو أمر لم تعهده سوريا منذ وصول حزب البعث إلى السلطة في عام 1963.
النخبة الجديدة
بالإضافة إلى ذلك، وضع النظام سياسة إنشاء "وفد للمصالحة" في كل منطقة يتألف من سكان محليين ومسؤولين في النظام من دمشق يكون بمقدورهم لقاء الجهات الفاعلة المدنية والعسكرية من المعارضة.
يكون معظم أعضاء وفد المصالحة من كبار الشخصيات التقليدية والتجار ورجال الدين الموالين للمؤسسة الدينية الرسمية، كما مهَّدَ النظام الطريق لبعض أعضاء وفد المصالحة ليصبحوا قادة محليين يتمتعون بسلطة مؤقتة، بينما كان يعمل على تفكيك الجهاز المدني والعسكري للمعارضة. وكان العديد من أعضاء وفد المصالحة شيوخاً وأئمة مساجد عينتهم وزارة الأوقاف (الشؤون الدينية) للحكومة خلال الفترة السابقة للثورة في عام 2011. بل إنَّ بعضهم ركِبوا موجة الثورة وأصبحوا قادة في فصائل المعارضة الإسلامية. ومن خلال مفتي ريف دمشق السابق، الشيخ محمد عدنان عفيوني، أعاد النظام تأهيل هؤلاء الشيوخ، وقدَّم لهم ضمانات بعدم مقاضاة هؤلاء الأشخاص مقابل دعمهم لسياسة المصالحة.
لكنَّ النظام أرسى الأساس لبعضهم ليصبحوا جزءاً من النخبة الجديدة بمنحهم احتكاراً للتمثيل في هذه البلدات والمدن وتحويلهم إلى وسطاء بين الشعب والدولة. في بلدة يلدا، في ريف دمشق الجنوبي، لعب إمام مسجد الصالحين دوراً بارزاً بعد أن كان قاضياً في المحكمة الشرعية للفصائل الإسلامية. وحدث الأمر نفسه مع إمام مسجد الكريم في بلدة ببّيلا، وكذلك إمام مسجد بيت سحم الكبير، الذي كان قائداً لسرايا الشام في لواء شام الرسول.
يتمتع شيوخ هذه المساجد بعلاقات جيدة مع "مركز المصالحة" في قاعدة حميميم الجوية الروسية. وفي قدسيا، أصبح إمام مسجد الصحابة، الشيخ عادل مستو، رئيساً لوفد المصالحة. وفي حماة، قام إمام مسجد الخابوري بهذا الدور. إنَّ إعادة تأهيل الأئمة ومنحهم القوة والسلطة من خلال تحكُّمِهِم بإعادة الخدمات إلى مناطق المعارضة، هو بطريقة ما، استنساخ المؤسسات الدينية الرسمية المؤيدة للنظام مثلما كانت عليه قبل الحرب.
لم يتردد النظام في صناعة نخبة جديدة، حتى لو كانت من المدانين السابقين، كما حدث في منطقة القابون بدمشق. وفي بلدة التل، أصبح أحد أعضاء وفد المصالحة مسؤولاً عن مكاتب التعبئة التابعة للنظام التي تجنِّد أفراداً لميليشيات موالية. أما في مضايا، في ريف دمشق الغربي، فإنّ التاجر الذي لعب دور التنسيق من جهة النظام لديه شقيق يرأس مجموعة بايعت تنظيم داعش. وفي معضَّمية الشام، في ريف دمشق الغربي، يمتلك أحد أهم أعضاء وفد المصالحة علاقات واسعة مع ضباط النظام الذين يتعارض موقفهم مع عمله السابق في الكازينوهات في دمشق.
التداعيات
بعد استسلام بعض مناطق المعارضة وقبول المصالحة فيها، يتم تفكيك وفود المصالحة على نحو فعَّال وتحويلها إلى سلطات جديدة بحكم الواقع تعمل كواجهة للميليشيات الموالية للنظام وأجهزته الأمنية. وسرعان ما يتراجع النظام عن وعوده بتقديم الخدمات. وفي مدينة التلّ، لم يتمّ بعد إعادة الكهرباء، واستمرت عمليات الاعتقال التعسفية والهجمات على المدنيين من قبل ميليشيا درع القلمون الموالية للنظام. وفي العديد من مناطق "المصالحة"، بدأ النظام يفرض التجنيد الإجباري على الشبان، مما ينتهك مُهلَةَ الإخطار التي تبلغ مدتها ستة أشهر والتي قال إنها ستُطبّقُ قبل فرضِ التجنيد الإجباري. وخلافاً لما وعد به، فإن النظام أيضاً لم يُفرِج عن المُعتقلين من مناطق ريف دمشق التي وافقت على هذه السياسة.