لئن كان من المفهوم وجود حالة من خيبة الأمل في نتائج الربيع العربي، إلّا أن الثورة تتطلب مقاربتها من منظور الأجل الأبعد ولا يمكن قياس نجاحها بمجرد الاستيلاء على السلطة فقط.
لقد فاجأت الانتفاضات العربية التي انطلقت بين عامَي 2010-2011 حتى أكثر المراقبين حِنكةً، إذ غالباً ما كان يُنظر إلى الحروب وصعود الأنظمة الاستبدادية التي أعقبت الاحتجاجات على أنها عودة الأمور إلى طبيعتها ونهاية الرغبة الثورية. لكن الشعور بالمفاجأة والحُكم بالفشل ينبعان من عدم فهم الحراك الثوري على المدى الطويل، ولا سيّما تاريخ اليسار العربي خلال الستينيات والسبعينيات.
وفي حين أن عملية إعادة تقييم الماركسية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1989 أدت إلى أفول اليسار على مستوى العالم، فقد بدأت عملية كهذه العملية قبل ذلك بعشر سنوات في الشرق الأوسط، حيث شكّلت الثورة في إيران ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل والتدخل السوفييتي في أفغانستان مجتمعةً نقطة تحول في تاريخ المنطقة. فقد أفضت هذه التغييرات الهيكلية إلى إعادة صياغة عملية إنتاج المعرفة وكذلك إعادة صياغة تعريفات المواضيع ذات الصلة، في حين أدّى التركيز على النظر في الأجل القصير من قبل السياسيين ووسائل الإعلام، مقروناً بتغيّر التصورات لمجتمعات الشرق الأوسط، إلى زيادة الاهتمام بالإسلام السياسي. وقد شرع الباحثون والناشطون، سواءً من جيل الشباب أو من الأجيال الأكبر سناً في النظر إلى تاريخ اليسار من منظور الهزيمة.
وحفزت أحداث عام 2011 تطورين متشابكين أولهما تجدُّد الاهتمام بتاريخ اليسار العربي المُهمَل منذ فترة طويلة، وثانيهما بدء علاقة بين نشطاء اليوم ونشطاء ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، الذين لطالما اعتُبروا الجيل المهزوم.
لقد ألقت الانتفاضات الضوء على حالة من الارتهان للأدوات التحليلية التي عفا عليها الزمن بين علماء الاجتماع وساعدت في طرح أساليب وفئات وأسئلة جديدة للمساعدة في تقديم تفسيرات وجيهة للمجتمعات والسياسة العربية في وقت يتسم بالاضطراب متعدد الطبقات. فمنذ أواخر السبعينيات جرى تحليل اليسار في المقام الأول من خلال منظور علاقته بالإسلام السياسي. أمّا بعد عام 2011، فقد سادت رغبةٌ في إعادة التفكير في اليسار بما يتجاوز الانقسام العلماني الديني، وإلقاء الضوء على صمود النزعة الراديكالية والديمقراطية العربية التي تحملت الحروب وإكراه الدولة والعولمة النيوليبرالية والعديد من المحاولات الفاشلة لإحداث التغيير.
وقد شرع الدارسون في البحث عن روايات جديدة، على سبيل المثال، يُنظر الآن إلى تاريخ اليسار خلال الفترة من الخمسينيات إلى السبعينيات من القرن الماضي من خلال منظور ألاعيب استعراض القوّة التي مارستها الدول والأحزاب الشيوعية في سياق الحروب الباردة العالمية والعربية. كما بدأ المؤرخون برسم صورة أكثر تعقيداً للعلاقة بين الأحزاب الشيوعية العربية والدولة والاتحاد السوفييتي من خلال فك رموز الحركات اليسارية المناهضة للدولة ودراسة ديناميكيات القطيعة وأوجه الاستمرارية في المسارات العسكرية والفكرية. كما شهدت الحركات اليسارية في هذه الفترة إحياءاً مستجداً من خلال المذكرات والروايات والسير الذاتية الأدبية ونشر السجلات والوثائق التاريخية.
أعادت هذه التصورات المتغيرة للماضي تعبئة الناشطين من الستينيات والسبعينيات وأدّت إلى تشكُّلِ فهم أفضل وحتى إلى التعاون الذي تجاوز الفجوة بين الأجيال. كما أعاد النشطاء الأصغر سناً النظر في هذه الفترة الطويلة وشخصياتها القيادية، ومن أمثلة ذلك أروى صالح في مصرمن قيادات حزب العمال الشيوعي التي اعتُبرت في الأوساط اليسارية شخصية مثيرة للجدل لدورها في الصراعات الداخلية التي قسّمت الحزب ولنقدها اللاذع للمواقف الدوغمائية تجاه النساء في صفوف الميليشيات اليسارية. وقد انتحرت صالح عام 1997 تاركة وراءها سلسلة من المقالات، واستحوذت مؤخراً على اهتمام جيل جديد بلوَرَ العديد من الروايات عن هذه الشخصية الساحرة والتراجيدية.
وشكّل زخم 2011 نقطة تحوّل للنشطاء اليساريين والأكاديميين، فمن خلال إحياء الآمال الثورية والشعور بالحاجة المُلحة للتغيير الاجتماعي والسياسي، ربطت الانتفاضات الآمال في مستقبلٍ أفضل برغبات الماضي الثورية. ولئن كان من المفهوم وجود حالة من خيبة الأمل في نتائج الربيع العربي، إلّا أن الثورة تتطلب مقاربتها من منظور الأجل الأبعد ولا يمكن قياس نجاحها بمجرد الاستيلاء على السلطة فقط.