إذا كان للسوريين أن يستعيدوا الثقة في مؤسساتهم العامة، فإن ذلك سيقتضي الكف عن استخدام وظائف الدولة لخدمة الأجندة السياسية للنظام.
منذ الانقلاب العسكري الذي جرى عام 1970، ازداد التلاعب بالمؤسسات العامة في سوريا للدفع بالأجندة السياسية للنظام. ومع ذلك، في مواجهة انتفاضة عام 2011 والصراع الذي تلاها في عام 2012، لعب احتكارُ النظام لمؤسسات الدولة دوراً أساسياً في مساعي الحرب التي شنّها ضد المعارضة.
ومع اقتراب الصراع من نهايته واستمرار المفاوضات حول التسوية، يجب على المجتمع الدولي إعطاء الأولوية لتفكيك التشابك ما بين النظام السوري وهيئات الدولة ومؤسساتها إذا كان السوريون سيستعيدون الثقة في مؤسساتهم العامة.
مثلما يُعرف عادةً،
فإنَّ مؤسسات الدولة مصممة لحماية المواطنين والحفاظ على حقوقهم. وهي تكفَل حصول السكان على الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية والمياه النظيفة والمعاش التقاعدي ودعم الإعاقة، فضلاً عن أمور أخرى. وهي تُصدر الوثائق الرسمية كتلك المتعلقة بالزواج والملكية والولادة والسفر. ويُتوقَّع من هذه المؤسسات أن تكون مستقلة وغير سياسية وتتسم بالشمول.
لكن المؤسسات السورية في ظل النظام السوري لم تكن تتَّسمُ أبداً بايّ من هذه الصفات التي من شأنها أن تسمح للناس باكتساب الثقة في هذه المؤسسات والإحساس بمِلكيَّتها.
في العقود التي تلت استيلاء النظام البعثي على السلطة، استغلَّ النظام مؤسسات الدولة واخترقها بالتدريج، بما في ذلك الأجهزة الأمنية والمؤسسات الخدمية. كانت تلك سياسة مُمَنهجة تهدف إلى طمس الخطوط الفاصلة بين النظام بوصفه، "مجموعة من الشبكات غير الرسمية العائلية والمجتمعية والدينية وغيرها التي تعمل داخل وخارج الإطار المؤسسي للدولة ووكالاتها ومؤسساتها. على هذا النحو، بدأ التصوّر العام لهذه المؤسسات في التراجع مع عام 2005، ووفقاً لاستطلاعات مؤسسة جالوب، فقد كانت ثقة الجمهور في مؤسسات الدولة مثل قوات الشرطة المحلية والنظام القضائي متدنيّة.
ومع ذلك، لم يكن أمام المواطنين خيار سوى الاعتماد على هذه المؤسسات للحصول على الخدمات الأساسية. في عام 2010، بلغ عدد الموظفين في مؤسسات الدولة حوالي
1.4 مليون سوري، لتُصبِح جهة التوظيف الرئيسية في البلاد. وبمتوسط حجم الأسرة الذي يصل إلى 6.2 فرداً، كان حوالي 8.7 مليون سوري يعتمدون على الدخل الناتج عن العمل في القطاع العام. الجامعات والمدارس والمستشفيات كلها مملوكة للدولة تقريباً. كما أنَّ إصدار شهادات الزواج والولادة والوفاة وسندات الملكية وغيرها من الوثائق والتسجيلات الرسمية هي مسؤولية حصرية للمكاتب الإدارية للدولة.
ومع اندلاع النزاع في منتصف عام 2012، حرصت الحكومة ألاَّ يُخِلَّ الصراع بوظائف مؤسسات الدولة، مما يضمن بقاء اعتماد الناس على الحكومة، وبالتالي الحد من العوامل التي تدفع إلى معارضتها. اختارت الحكومة السورية أن تُسخِّر الدولة بأكملها في استراتيجيتها الحربية لضمان أن يكون جميع المواطنين بالكامل
معتمدين على حكمها، ولا سيّما مع تفاقم تحديات إمساكها بزمام الحُكم. وباعتبارها مزوِّداً لخدمات مستقرة مثل الخبز المدعوم والماء والوقود والكهرباء والمدارس والأدوية، ظلت الحكومة في وضع جيد للحفاظ على سيطرتها في المناطق التي كانت تحت سيطرتها.
في العديد من حالات الصراعات الأخرى داخل الدول، كانت المؤسسات إما تصبح عديمة الفائدة أو أنها تنهار تماماً، لكن النظام السوري فهم مدى أهميتها لبقائه. في المناطق التي خسرها أمام معارضيه، منع النظام السوري المعارضة بشكل منهجي من بناء مؤسسات بديلة يمكن أن تُضعف احتكار الحكومة للخدمات الأساسية.
على سبيل المثال، في حين أن النظام لم يمتنع عن دفع رواتب موظفي الخدمة المدنية، فقد اضطر الموظفون إلى عبور الجبهات إلى المناطق التي يسيطر عليها لاستلام رواتبهم. وفي بعض المناطق، نُقِلت مؤسسات الدولة عمداً إلى مناطق معروفة بأنها أكثر ولاءً للحكومة، وحُرم المواطنون الذين كانوا عالقين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من الوصول إلى الخدمات الأساسية، وأُجبِرَ الكثيرون على الانتقال إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. وفي حالات أخرى، دمَّر النظام البنى التحتية الضرورية لمساعي المعارضة لتقديم الخدمات.
حتى خارج البلاد، استخدم النظام أعضاء سلكه الدبلوماسي وبعثاته الأجنبية لإجبار المغتربين السوريين واللاجئين السوريين على الاستمرار في الاعتماد عليه. وفي الوقت الذي أُغلِقت فيه العديد من البعثات الحكومية السورية أو خُفِّضَ عددها في جميع أنحاء العالم، واصل المغتربون السعي بحثاً عن السفارات والقنصليات لتجديد جوازات السفر. حتى أن بعضهم اعتمد على الأقارب المقيمين في المناطق التي يسيطر عليها النظام لتجديد وثائق سفرهم. بالنسبة للسوريين الذين فروا بسبب معارضتهم الصريحة للحكومة، فإن الحصول على جواز سفر من شأنه أن يُعرِّض عائلاتهم للخطر، مما يجعل الأمر مستحيلاً. وقد تسبب هذا في جعل الكثيرين يصبحون عديمي الجنسية، الأمر الذي يتطلب حماية دولية إضافية.
حقق حكم المعارضة بعض النجاح في ملء الفراغ الذي تركه النظام. فقد أنتجت المعارضة الوثائق مثل شهادات الميلاد والشهادات المدرسية، وقدمت الخدمات الأساسية والدعم الاقتصادي. ولكن مع تحول السيطرة على المناطق إلى النظام، يمكن أن تشكل مثل هذه الوثائق مخاطر إضافية على المدنيين، حيث تُعدُّ دلالةً على الولاء للمعارضة.
مع اقتراب الصراع من نهايته على ما يبدو، يجب تطوير سياسات ما بعد الصراع لفك ارتباط مؤسسات الدولة بالنظام. سعت الجهود الدبلوماسية، بما في ذلك
جنيف إلى انتزاع مؤسسات الدولة من قبضة النظام السوري، لكن الملامة لحقت بالجهود المبذولة في التسوية.
ومع تحول الاهتمام الدولي إلى إعادة الإعمار، يجب على القادة العالميين وصُنَّاع السياسات أن يضعوا في اعتبارهم الجوهرية للمؤسسات العامة في تنفيذ جهود إعادة الإعمار بطريقة تشمل جميع الناس. ومن المرجح تنفيذ جميع خطط إعادة الإعمار من خلال الوزارات التنفيذية والوكالات الحكومية. ومع ذلك، إذا لم يتم فصل هذه الوكالات عن النظام، فثمة خطر كبير بأن يتم اختطاف جهود إعادة الإعمار لدعم المناطق الموالية له، بالإضافة إلى حرمان المدنيين في مناطق كانت تخضع لسيطرة المعارضة.
وفي غضون ذلك، سيظل برنامج إعادة اللاجئين الذي دفعته الحكومات الإقليمية محملاً بالمخاطر. حتى إذا أصبحت سوريا آمنة بالنسبة للاجئين العائدين، فإن العديد منهم سوف يختارون عدم العودة لأنهم قد يحرمون من تلقِّي الخدمات الأساسية المقدمة. بذلك، من دون إصلاح مؤسسي هادف يعيد الاستقلالية والحياد، يبقى الاستقرار حلماً بعيد المنال في سوريا.