لا بدَّ من ردٍّ استراتيجيّ على قمع الحوثيين الوحشي للمجتمع المدني

تُمثل الحملة القمعية مرحلة جديدة من الحكم الاستبدادي الذي سيعيق عملية السلام ويحول دون وصول المساعدات إلى اليمنيين العاديين

في نهاية أيار/ مايو 2024، شنت جماعة الحوثيين المسلحة في اليمن (المعروفة أيضاً باسم جماعة أنصار الله) جولة جديدة من المداهمات في جميع أنحاء العاصمة صنعاء، حيث أخفت قسرياً عشرات اليمنيين بمن فيهم النشطاء والباحثين والعاملين في المنظمات الدولية غير الحكومية والموظفين الدبلوماسيين. وفي أعقاب الاعتقالات، ندَّد الحوثيون علناً عبر شاشات التلفزة بأهداف داخل البلاد وخارجها. وكنتُ شخصياً من بين المستهدفين، إذ اتُّهِمت واخرين – كذبا- بتنفيذ أجندة ومؤامرات خارجية.

وقد بثَّ الحوثيون عدة تصريحات لمعتقلين كان من الواضح أنهم قد تعرضوا للتعذيب “يعترفون” فيها بأنهم جزء من شبكة تجسس إسرائيلية-أمريكية واسعة في اليمن.

لكنَّ الاعتقالات والهجمات العلنية لم تكن تتعلق بأفراد محددين. فهي تهدف في المقام الأول إلى ترهيب اليمنيين وإسكات المعارضة. هذه الموجة الأخيرة من الاعتقالات ليست أول حملة قمع، لكنها تُنبئ بمرحلة جديدة، إذ إنّ من بين المعتقلين بعض أعضاء جماعة الحوثيين نفسها، مما يدل على المزيد من التضييق لنطاق المعارضة. وهذه الحملة هي أعنف محاولة حتى الآن “لتطهير” المجتمع المدني اليمني وسحق الأصوات المعارضة داخل البلاد وخارجها.

لماذا يفعل الحوثيون ذلك الآن؟

ثمّة سببان رئيسيان وراء اختيار الحوثيين التصرف بطريقة أكثر استبداداً.

الأول هو الشعور بالإفلات من العقاب. إذ يشعر الحوثيون بقدرٍ أكبر من الارتياح مع المملكة العربية السعودية، بعد أن اتفق الطرفان على إنهاء الأعمال العدائية المفتوحة في وقت سابق من العام. وفي الوقت نفسه، أدت الهجمات المستمرة للحوثيين في البحر الأحمر إلى تقوية شوكة الجماعة، ورفعت من مكانتهم في “محور المقاومة” الذي تقوده إيران، وأكسبَتهم ظهوراً إقليمياً وعالمياً، كما أظهرت حدود الرد الدولي.

في هذا السياق، يشعر الحوثيون بالأمان الكافي لفعل ما يشاؤون باليمنيين ويبدو أنهم غير قلقين من ردِّ فعل دولي محتمل – حتى أنهم يحتجزون موظفي الأمم المتحدة ويُمهِلون اليمنيين العاملين مع المنظمات الدولية غير الحكومية أو السفارات الأجنبية 30 يوماً لتسليم أيّ معلومات أو وثائق إلى سلطات الحوثيين.

أمّا السبب الثاني فهو تحسُّن قدرة الحوثيين على المراقبة بشكل كبير، فقد أدى نقل التكنولوجيا والتدريب من إيران، كما تُظهر التقارير الأخيرة، إلى تعزيز قُدرتهم على مراقبة السكان والتحكم في تدفق المعلومات.

التداعيات على عملية السلام اليمنية

على المديَيْن القصير والطويل، ستُلحِق حملة الحوثيين الضرر بعملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة. وكانت آخر محادثات سلام بقيادة الأمم المتحدة قد عُقدت في الكويت في عام 2016.

ومنذ ذلك الحين، كافح العديد من مبعوثي الأمم المتحدة لجمع الأطراف معاً في عملية سلام شاملة. كما أنَّ الصمتَ العلنيّ للأمم المتحدة على التضييق على عملها – بل واعتقال موظَّفيها – سيزيد من تقويض مصداقيتها في أيّ مفاوضات.

وإذا ما مضت الأمم المتحدة قُدُماً في تنفيذ “خريطة الطريق” التي رتَّبها السعوديون، في هذه الظروف، فإنها تُجازف بأن يُنظر إليها على أنها ببساطةٍ تُيسِّرُ الترتيبات السعودية-الحوثية على حساب حقوق الإنسان الأساسية لليمنيين.

تعريض المساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها للخطر

سيكابد اليمنيون العاديون أسوأ آثار حملة القمع الحوثية.

فالعديد من المعتقلين هم أشخاص يعملون في مجال إيصال المساعدات الإنسانية – وقد استُهدفوا في بعض الحالات بسبب فضحهم حَرف الحوثيين لمسار تلك المساعدات.

ومن الأمثلة على ذلك، الحُكم بالإعدام على الرئيس التنفيذي ومالكِ أكبر مزوِّد لخدمات مراقبة المساعدات وتقييمها في البلاد. وقد سُرِّح موظَّفو الشركة البالغ عددهم حوالي 1000 موظف.

سوف تتردد معظم الجهات المانحة والمنظمات الآن في المخاطرة بالعمل في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. فلِمَ قد يُرسل أيُّ مانح غربيّ أموال دافعي الضرائب الخاصة به إلى منطقة تسيطر عليها الميليشيات دون رقابة مستقلة، حيث لا يمكن حماية عمال الإغاثة أيضاً؟ وقد بدأت منظمة التنمية الألمانية (GIZ) بالفعل بإغلاق برامجها الإغاثية والتنموية في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون في الأسبوع الأول من شهر آب /أغسطس.

كيف ينبغي للمجتمع الدولي أن يردّ؟

ثمّةَ مقاربتان لدى المجتمع الدولي والنشطاء اليمنيين في شأن كيفية الرد على حملة القمع الحوثية.

الأولى، يضطَّلع بها العديد من الدول الغربية، وتدعو إلى مزيدٍ من العمل العسكري والعزلة الدبلوماسية وفرض المزيد من العقوبات.

أما الثانية، التي يتبنَّاها العمانيون والسعوديون وبعض مسؤولي الأمم المتحدة، فتدعو إلى الدبلوماسية الهادئة.

لكن كلتا الاستراتيجيتين قد ثبت خطأها بالفعل. ذلك أنَّ ما نحتاجه هو المزيد من الانخراط المدروس والمنظَّم، إلى جانب فَرضِ خطوط حمراء واضحة المعالم، وعواقب في حال جرى تجاوزها.

لن يُفضي أيّ عمل عسكري إلى ترويض الحوثيين، فمنذ الحرب الأولى ضد الجماعة في صعدة في عام 2004، وصولاً إلى عملية عاصفة الحزم بقيادة السعودية والإمارات في عام 2015 وعملية “حارس الازدهار” بقيادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في عام 2024، لم يغيّر أيُّ قَدْرٍ من القصف سلوك الحوثيين. فالجماعة تزدهر في الحرب أكثر بكثير من ازدهارها في أوقات السِّلم. بل إنّ الأدلة تشير إلى أن المزيد من المواجهة لن يؤدي سوى إلى إلحاق الضرر بالمدنيين اليمنيين وتمتين روابط الجماعة العسكرية مع إيران.

كما أنَّ المقاربات التي تسعى إلى عزل الحوثيين أتت بنتائج عكسية، وأحد الأسباب التي جعلت الحوثيين يشعرون بأنهم قادرون على قمع المجتمع المدني هو عدم وجود بعثاتٍ دبلوماسية في صنعاء، باستثناء البعثة الإيرانية، التي سيضطرون إلى شرح مثل هذه الإجراءات لها.

سيبقى التعاما مع الحوثيين أمراً صعباً للغاية، إلّا أنَّ لهُ مبرّره الاستراتيجيّ. فالتخلي عن السكان في شمال اليمن يصبّ في مصلحة الحوثيين دون غيرهم. وهناك تباينٌ في الآراء داخل قيادات الحوثيين، وهذا ما يتعيَّن على المجتمع الدولي البناء عليه. فالبعض يسعى إلى النأي بنفسه عن الحملة القمعية الاستبدادية الأخيرة، التي يُنظر إليها على أنها بقيادة فصيل موالٍ للحرس الثوري الإيرانيّ داخل الجماعة.

يجب على المجتمع الدولي مواصلة انخراطه، ولكن مع فرض خطوط حمراء واضحة بشأن توزيع المساعدات ومعاملة المجتمع المدني.

لا يحترم الحوثيين المعايير الدولية أو النهج القائم على حقوق الإنسان. لكن هناك حالات يكونون فيها عُرضةً للضغوط المالية. وتجدر الإشارة إلى أنهم تراجعوا عن إجراءات سابقة مماثلة على المنظمات غير الحكومية الدولية في كانون الأول/ ديسمبر 2018 بعد تهديدٍ جادّ من المانحين وبرنامج الأغذية العالمي بقطع المساعدات عن المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.

كما ينبغي النظر في إحالة الحوثيين إلى المحكمة الجنائية الدولية – مثلما ينبغي النظر في التحقيق والاستهداف القانوني لقادة الجماعة السياسيين ومصالحها المالية. وحتى لو أنَّ قادة الحوثيين لا يسافرون إلى الدول الموقعة على المحكمة الجنائية الدولية، إلّا أنَّ رمزيةَ وضعهم على قائمة مع القادة الإسرائيليين أنفسهم الذين يدعون محاربتهم ستكون مُفعمة بالدلالة.

من الواضح أن عدم اتخاذ أيّ إجراءٍ ليس خياراً مطروحاً، فمن شأن ذلك أن يتيح للحوثيين مساراً سالكاً بلا عوائق نحو المزيد مِن زعزعة استقرار اليمن، وتقويض آفاق السلام، وبناء دولة على غرار المافيا في قلب شبه الجزيرة العربية والبحر الأحمر. إن استراتيجية ممارسة أشكال الضغط الدبلوماسي المتاحة على الحوثيين من أجل حماية مصالح اليمنيين العاديين هي السبيل الوحيد الفعال للمضي قُدُماً.