تُكلّلُ مقاومة التطرف بأكبر قدر من النجاح حينما تصدُرُ عن المجتمعات المحلية التي لديها شبكات مجتمع مدني متينة، والأهم من ذلك، حينما تشارك فيها النساء الأكثر عرضةً للخطر.
في أيار/مايو من هذا العام، نشرت وكالة أنباء سمارت، وهي موقع إعلامي معارض، تقريراً مصوراً عن الفساد التربوي والإداري في جامعة إدلب، حيث تخضع الجامعة لسيطرة حكومة الإنقاذ السورية، وهي جناح السلطة المدنية في جماعة هيئة تحرير الشام، الجماعة الإسلامية المتشددة التي تهيمن على معظم المناطق التي يسيطر عليها الثوار في المحافظة.
وكان من بين من أجريت معهم المقابلات أمٌّ شابة تدعى فاطمة إدريس، وهي طالبة في معهد الإعلام بالجامعة نزحت من حمص إلى إدلب، ودفعت انتقادات فاطمة الصريحة هيئةَ تحرير الشام إلى اعتقالها، مما أثار الغضب والاحتجاجات بين النشطاء والطالبات. وأُطلِقَ سراح فاطمة بعد أسبوعين، ربما نتيجة لضغط الجمهور. إلاَّ أن قضيتها تُقدِّمُ مثالاً على المقاومة المحلية المستمرة للمجموعات المسلحة التسلطية، والتي غالباً ما تكون النساء في طليعتها.
أدى تحرير إدلب من قبضة نظام الأسد إلى حدوث ثورةٍ في المحاولات الخلاَّقة من قبل السكان المحليين للحكم الذاتي لمجتمعاتهم تزامناً مع انسحاب مؤسسات الدولة. ومع ذلك، فإن ممارسات الجماعات المتشدد قد هددت هذه الحريات التي اكتُسِبَت بشقّ الأنفس.
حاولت هيئة تحرير الشام (المعروفة سابقاً باسم جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة) الاستيلاء على مؤسسات الحكم المدني والسيطرة على مرافق الخدمات الأساسية والمعابر الحدودية، مما أدى إلى زيادة كبيرة في تكاليف الخدمات والسلع الاستهلاكية، كما فرضت الرقابة على نشطاء المجتمع المدني ومنظماته.
وقد أدت المناوشات بين هيئة تحرير الشام وجبهة تحرير سوريا، وهي تحالف يضم جماعة نور الديكن الزنكي وجماعة أحرار الشام المسلحتين السلفيّتَين، إلى زيادة منسوب العداء الذي يواجهه سكان إدلب. كما أدى الاقتتال الداخلي بين الثوار إلى وقوع العديد من الضحايا المدنيين فضلاً عن سلسلة من الاعتقالات والاغتيالات ذات الدوافع السياسية. وبالنسبة إلى لعديد من المدنيين، أصبحت هذه المجموعات الآن على درجةٍ من السوء تشبه سوء نظام الأسد.
ومع ذلك، فإن وجود مجتمع مدني نابض بالحياة في إدلب سمح للسكان بتحدي هيمنة هيئة تحرير الشام حول الشؤون المدنية وحماية حقوق الناس. فقد نُظِّمَت احتجاجات مستمرة ضد الهيئة أدت في بعض الحالات إلى طردهم من المجتمعات مثلما جرى في سراقب.
وقام أكثر من 400 ناشط محلي بتأسيس “البيت الإدلبي” من أجل تنسيق الجهود المعارضة لسيطرة هيئة تحرير الشام والدعوة إلى نزع الطابع العسكري عن مجتمعاتهم، وتنظيم الحملات الإعلامية والمظاهرات العامة. وأصدرت العديد من المجالس المحلية (الوحدات الإدارية المدنية التي تحكم المناطق المحررة) بيانات عبّرت عن رفضها لسلطة الهيئة.
لقد تأثرت النساء تأثُّراً مُفرطاً بمحاولات هيئة تحرير الشام لتنظيم الحياة المدنية وفرض ديكتاتورية جديدة. إذ تتضمن بعض المراسيم التي تصدر بدعوى مراعاة الشريعة وتنفّذها الشرطة الدينية التابعة لـلهيئة والمعروفة باسم “سواعد الخير” فرضَ قواعد صارمة على الأزياء النسائية، وتمنع اختلاط الذكور والإناث في الحافلات، وتطلب من الأرامل أن يتنقّلن بمرافقة مُحرم (ذكر من الأقرباء).
وقد أدت هذه التدابير أيضاً إلى خروج المجتمع المحلي بمظاهرات. ففي مخيم الفاروق للأرامل في شمال إدلب، احتجت النساء ضد قرار فرض محرم عليهنّ. وفي مدينة إدلب، شكلت النساء مجموعات تطوعية تقوم بزيارات منزلية للنساء للتصدي للآراء المتطرفة ومعارضة الداعيات الإناث اللواتي يحاوِلن فرض الامتثال لقانون الشريعة. وقد أثبتت هذه الأنشطة نجاعتها في طرد أولئك الداعيات من المجتمع.
تتطلب مقاومة المرأة للتطرف تنظيماً نسائياً، ويمكن أن يشكِّل هذا تحدياً في مجتمعات أكثر محافظة وتقليدية، حيث غالباً ما ينحصر دور المرأة في المجال الخاص. ويوجد أكثر من 150 مجلساً محلياً في محافظة إدلب، وقد جرى انتخابُ أعضائها انتخاباً ديمقراطياً في أول انتخابات من هذا النوع خلال أكثر من أربعة عقود من حكم الأسد.
في حين أن النساء غالباً ما يُحرمن من أدوار قيادية في المجالس المحلية، أنشأ مجلس إدلب المحلي مكتباً لتمكين المرأة يعمل على النهوض بوعي المرأة بالقضايا الاجتماعية والسياسية ودعم مشاركتها المتزايدة في الشؤون العامة.
وابتغاء تحقيق هذه الغاية، تأسّت مراكز نسائية أيضاً. ولدى منظمة «النساء الآن» التي تُدار بأيدٍ سورية، مركزين في إدلب، يوجد في أحدهما مقهى للإنترنت خاص بالنساء. كما يُسيِّرُ المركزان برامج مهاراتٍ قيادية للنساء وقد تمكّنت العديد من خريجات المركزَيْن من العمل في المجالس المحلية. كذلك فقد أُسِّسَ أول مركز للمنظمة في معرة النعمان عام 2014 وتديره مزنة الجندي، وهي أم لطفلين تبلغ من العمر 30 عاماً وتحمل شهادة في الهندسة التقنية. وفي عام 2016 شارك المركز في التحضير لانتخابات المجالس المحلية.
أماّ في بلدة كفرنبل، فقد تأسيس مركز “مزايا” في حزيران/يونيو 2013 على يدِ غالية رحال وذلك من أجل تعليم النساء المهارات المهنية التي تُمكِّنهنّ من تحقيق الاستقلال المالي، وإجراء مناقشات حول قضايا حقوق المرأة، وتحدي التهديدات المتزايدة التي تفرضها الجماعات الإسلامية المتطرفة. واليوم تدير مؤسسة مزايا ثمانية مراكز في محافظة إدلب بالإضافة إلى عيادات طبية ومجلة نسائية.
وقد أثارت هذه الأنشطة غضب المتطرفين، ففي 10 تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2014، تعرَّض المركز لحريق متعمد من قبل مجموعة غير معروفة، وبعد فترة قصيرة نجت غالية من محاولة اغتيال. وكان المركز قد تعرَّض للإغارة سابقاً ولحِقت به أضرار على أيدي مقاتلي جبهة النصرة في يناير كانون الثاني/يناير 2014.
لقد أتاحت الثورة السورية فرصاً أكبر للنساء للعمل خارج المنزل. ويرجع ذلك جزئياً إلى ظروف الحرب التي غالباً ما يكون فيها الرجال غائبين وغير قادرين على إعالة أسرهم. وتضمُّ قوات الدفاع المدني “الخوذات البيضاء” العديد من المتطوعات الإناث وتدير مراكز نسائية في إدلب تعمل على توفير الخدمات الطبية للنساء بالإضافة إلى التدريب على الإسعافات الأولية والتمريض. ومعظم الموظفين في اتحاد المكاتب الثورية هم من النساء وقد وفَّرنَ التدريب الإعلامي للمواطنات الصحفيات.
راديو فريش، إحدى المحطات الإذاعية المحلية الأكثر شعبية في إدلب، كان أيضاً في صراع مع الجماعات الإسلامية المتطرفة عندما حظر مسلحو النصرة الموسيقى والمذيعات الإناث بدعوى أن ذلك يخالف الإسلام؛ بثت المحطة أصوات الحيوانات وأصوات النساء المعدلة رقمياً لتظهر وكأنها أصوات رجال، وذلك في تحدٍّ ساخر للجماعة. تمت مداهمة مكاتب الإذاعة من قِبَل كل من النصرة وداعش، وتعرض الناشطون المشاركون لمحاولات اغتيال واعتقالات، لكنهم استمروا في البث.
إن وجود الجماعات المتطرفة المتشددة في محافظة إدلب هو المبرر الذي يقدّمه النظام وحليفه الروسي لمواصلة هجومهم الجوي. بيدَ أن هذه الضربات الجوية التي تستهدف عادة المناطق السكنية والبنية التحتية المدنية الحيوية، والتي تشوِّه الرجال والنساء والأطفال وتقتلهم؛ تخلق الفوضى واليأس وهما يشكِّلان البيئة التي تزدهر فيها الجماعات المتطرفة.
كما أن وجود مثل هذه الجماعات يوفِّر الحجّة المنطقية لسحب تمويل المانحين لمنظمات المجتمع المدني بسبب مخاوف من أن ينتهي الأمر بالأموال في الأيدي الخطأ. تُكلّلُ مقاومة التطرف بأكبر قدر من النجاح حينما تصدُرُ عن المجتمعات المحلية التي لديها شبكات مجتمع مدني متينة، والأهم من ذلك، حينما تشارك فيها النساء الأكثر عرضةً للخطر. إن سياسة مكافحة التطرف الجادّة تتطلب وضع حد لقصف المدنيين، واستمرار التمويل والدعم لجماعات المجتمع المدني النسائية.