منذ شهر أيلول/سبتمبر الماضي، شهِدت محافظة إدلب اغتيال ما يزيد عن 35 عضواً من هيئة تحرير الشام، وهي ائتلاف من الجماعات الثورية التي يقودها فرع تنظيم القاعدة في سوريا والمعروف بجبهة فتح الشام. وفي حين أن الاغتيالات مسألة شائعة في سوريا، إلا أن معدَّل وحجم هذه الهجمات المخططة لم يسبق لهما مثيل، كما أنّ أثرها على قدرة الجماعة يدل على حدوث تحوّل كبير في طريقة تعامل معارضيها معها.
ومن الصعب للغاية الحصول على صورة واضحة عن العدد الدقيق لمحاولات الاغتيال التي تستهدف هيئة تحرير الشام، نظراً للافتقار إلى عملية منهجيّةٍ لجمع البيانات والظروف السرية التي أحاطت ببعض هذه المحاولات. ومع ذلك، يُظهر استعراضٌ سريع لتقارير وسائل الإعلام المحلية العامة خلال الأشهر الثلاثة الماضية أن معظم الهجمات استهدفت أعضاء بارزين في الجماعة. ويأتي القضاء على الشرعيين الأجانب والقادة الأجانب -معظمهم من السعوديين والأردنيين والتونسيين- على رأس قائمة الأولويات، مما يدلّ على أنَّ الاغتيالات تهدف إلى إضعاف قيادة هيئة تحرير الشام. فقد كان من أبرز المستهدفين أبو طلحة الأردني وأبو عبدالرحمن المهاجر وأبو سليمان المغربي وأبو يحيى التونسي وسراقة المكي وأبو محمد الشرعي. ويأتي القادة العسكريون المحليون كأولوية ثانية، ومن بينهم أبو إلياس البانياسي ومصطفى الزهري وسعيد نصر الله وحسن بكور.
وعلى الرغم من جهود هيئة تحرير الشام لتصبح حركة متجذّرة، فإنها ما تزال إلى درجة كبيرة بمثابة شبكة تدور في فلك شخصيات تتحلّى بالخبرة والكاريزما. ولذلك من المفترض أن يؤدي القضاء على القيادات المستهدَفة إلى تدمير الشبكة من حولهم. وعلى هذا النحو، فإن استهداف الشرعيين الأجانب في هيئة تحرير الشام، الذين هم في الغالب مقاتلون مخضرمون يتمتعون بخبرة طويلة كجهاديين، سوف يُضعِف مصداقية الجماعة ويحدّ من قدرتها على التجنيد. وعلى المنوال نفسه، فإن القادة العسكريين المستهدفين معروفون عموماً بفعاليتهم وخبرتهم، وبالتالي فإن من الصعب استبدالهم.
وقد ازدادت عمليات الاغتيال ضد هيئة تحرير الشام بشكل ملحوظ منذ أيلول/سبتمبر الماضي وجاءت متزامنةً مع الاستعدادات للتدخل الذي تقوده تركيا في إدلب. وكان الكثير من التكهنات حول التدخل التركي المحتمل في إدلب قد صوَّرَ العملية على اعتبار أنها عملية ضدّ هيئة تحرير الشام، مما يدعم افتراض وقوف تركيا وراء الهجمات. ويزعم مؤيدو هذه النظرية أن خطة تركيا هي إضعاف هيئة تحرير الشام ببطئ بدلاً من محاربتها في مواجهة عسكرية من شأنها أن تكون مكلفة وربما تتسبب في تمتين قاعدتها.
ويأتي في صُلبِ هذه الخطة مفاقمة الانقسامات الداخلية في هيئة تحرير الشام بين البراغماتيين والمتشددين، ومن ثم يمكن القضاء على هؤلاء المتشددين الذين يمثِّلون التهديد الأبرز، وذلك من خلال حملة اغتيال سرية تقودها تركيا. لكن هذه النظرية تفترض أن تركيا، التي دخلت إلى الأراضي السورية بالتنسيق مع هيئة تحرير الشام، سوف تُعرِّض هدفها الرئيسي في سوريا للخطر (وهو إبقاء الأكراد السوريين تحت أنظارها) من أجل القيام بذلك.
وبدلاً من ذلك، فإن النموذج العملي الذي اعتمده زعيم "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني (والذي أدى إلى انقسامات داخل المجموعة) يُستخدم كدليل على أن الهجمات هي تدبيرٌ داخلي. فقد اتّسعت الهوّة بقرار الجولاني قطع ارتباطات الجماعة الخارجية بالقاعدة من أجل تأسيس جبهة فتح الشام في تموز / يوليو 2016. كما وصل التوتر إلى مستوى آخر عندما حلَّ الجولاني جبهة فتح الشام بعد بضعة أشهر لإنشاء هيئة تحرير الشام، على الرغم من الاعتراض الداخلي من المتشددين.
كذلك فإن قرار الجولاني بالتفاوض مع تركيا والسماح لها بإطلاق عملية إدلب أدى إلى أزمة ثقة داخلية مع قيادته. إذ إنَّ الوسط السلفي الجهادي، الذي تنتمي إليه هيئة تحرير الشام، يعتبر قبول التعاون مع الحكومة التركية (العلمانية) انتهاكاً واضحاً لتعاليم المدرسة العقائدية.
وقد أعرب العديد من أعضاء هيئة تحرير الشام، في عدة محادثات أجريتها معهم، عن استيائهم من خط التفكير الجديد للمجموعة. وفي مقابلة أُجرِيت معه في الآونة الأخيرة، قال حسن الدغيم، وهو باحث سوري مطَّلع وعالِم دين يركّز على الحركات الإسلامية، إن الجناح البراغماتي لهيئة تحرير الشام سيحاول التخلص من المتشددين للسماح للنموذج الجديد بالعمل. ويتردد هذا الرأي على ألسنة المراقبين الآخرين الذين يعتقدون أن الاغتيالات بدأت بعد انشقاق شخصان بارزان من هيئة تحرير الشام، هما عبد الله المحيسني ومصلح العلياني، كخطوة وقائية لمنع المزيد من الانقسامات والانشقاقات. ولكن كيف يمكن لهذه العملية المتطورة أن تبقى سرية بعد تسريب العديد من المحادثات الخاصة والحساسة للجماعة؟
وهناك تقارير غير مؤكدة عن تورط جهات فاعلة أجنبية وحكومات في تلك الاغتيالات من خلال وكلاء محليين. ومع التراجع المتسارع لتنظيم داعش، تحول الاهتمام الدولي بشكل أكبر نحو التهديد الذي تُمثِّلُه هيئة تحرير الشام في إدلب. ولكن بدلاً من العمليات العسكرية التقليدية المشابهة للحملة المناهضة لداعش، فقد يُستخدم نهج مختلف للقضاء على الأشخاص المهمّين دون إثارة ديناميات النزاع الحساسة.
وتشير طبيعة عمليات الاغتيال إلى أنَّ عدداً قليلاً من الأشخاص يشاركون في تنفيذها. وغالبية هذه الاغتيالات تتم إمّا عن طريق زرع عبوات ناسفة تحت سيارات المُستَهدفين أو عن طريق إيقاعهم في كمائن وإطلاق النار عليهم. وعلى هذا النحو فإن من السهل على بعض الحكومات توظيف مرتزقة محليين لقتل أهداف عالية القيمة مثل مواطنيها الذين انضموا إلى هيئة تحرير الشام أو غيرهم من الأفراد الذين يُشكّلون تهديداً. وأكدت مصادر محلية أنّ العديد من السكان المحليين، سواء كانوا من العملاء أو المتصيّدين، يشاركون بالفعل في مثل هذه الأنشطة. لكنهم سلطوا الضوء أيضاً على أن النظام وداعش قد يكونان وراء بعض الاغتيالات.
إنّ العدد الهائل من الناس الذين لديهم مصلحة في اغتيال قادة هيئة تحرير الشام، فضلاً عن الوسائل العديدة، إنما يزيد من صعوبة التحقُق من هوية المسؤول عن ذلك. ولكن من الجائز القول إن مثل هذه الهجمات المستهدفة سوف تتواصل طالما أنّ المجتمع الدولي يرى في المجموعة أحد أكبر التهديدات في سوريا.