لم يكن من المفاجئ كثيراً أن تبدأ عملية عسكرية تدعمها تركيا ضد مدينة عفرين. فالمدينة، التي تقطنها غالبية كردية، هي أيضاً قاعدة رئيسية لوحدات حماية الشعب الكردي (YPG)، وهي منظمة عسكرية تلقَّت دعماً كبيراً من أمريكا، وكذلك من روسيا، في المعركة ضد داعش. وقادت وحدات حمایة الشعب المعركة ضد داعش في الرقة وشمال سوریة، في حين أنها حاولت في الوقت نفسه رسم خطوط مناطق الحكم الذاتي التي سیتم السیطرة علیھا وإدارتھا من قِبل المنظمة.
وقد ألمح العديد من البيانات الصحفية التركية إلى هذه العملية، وفي منتصف كانون الثاني/يناير بدأت العملية بصورة جدّية بالتعاون مع الجيش السوري الحر المتمركز في المنطقة المحيطة بدرع الفرات والواقعة تحت السيطرة التركية.
لم تتردد أمريكا في رفض دعمها للقوات الكردية، وكذلك فعل الروس أيضاً. وكانت روسيا قد سحبت عناصرها من منطقة عفرين، كما استدعت العاملين في “مركز المصالحة” الذي كان له فرع في مدينة عفرين. وقد تُرِكت المدينة، التي أصبحت الآن خالية من العناصر الأمريكية والروسية، لهذه الجماعات المسلحة الكردية لتكون ساحة لمعركتهم ضد الجيش التركي والمعارضة السورية.
خسِرت الوحدات المسلحة الكردية دعمها العسكري والسياسي على حدّ سواء، وهو الدعم الذي لعب دوراً حاسماً في اكتسابها مزيداً من السلطة والسيطرة. كانت أمريكا تحمي الوحدات سياسياً، في حين غطَّت روسيا احتياجاتها العسكرية. وعلى هذا النحو، راحت الجماعة تعوّل على المعدات العسكرية التي كانت تزوَّد بها على الأرض. غير أنها لم تتمكن من التعامل مع القوة الجوية والأسلحة الثقيلة للجيش التركي.
الخيارات المتاحة أمام وحدات حماية الشعب الكردي:
هناك خياران متاحان فقط أمام وحدات حماية الشعب الكردي: المواجهة أو التراجع. وبحسب ما يظهر على خريطة المنطقة المحيطة بعفرين، فإن الطريق الوحيد المفتوح أمام الوحدات لخارج المنطقة يؤدي إلى مناطق سيطرة النظام السوري. أما بقية المناطق المحيطة بعفرين فهي تحت سيطرة الجيش السوري الحر الذي يقاتل إلى جانب الجيش التركي، وبالتالي لن يسمح للقوات الكردية بالانسحاب عبر أراضيه، وبدلاً من ذلك سيوف يمارَسُ المزيد من الضغط على المدينة نفسها.
ولكن مع عدم قيام وحدات حماية الشعب الكردي بالتحرك في أيّ من الاتجاهين حتى الآن، يبدو من الواضح أنها تنتظر لتتبيّن إمكانية التوصل إلى صفقة أو اتفاق دولي، مما سيؤدي إلى إنقاذ وجودها العسكري في منطقة عفرين.
وإذا ما انسحبت وحدات حماية الشعب الكردي من هذه المنطقة، فإنها تُسلِّمُ فعليا بوجودها العسكري في منطقة الجزيرة، بما في ذلك الحسكة والرقة. إلاَّ أنه من الواضح أن هذا لن يحدث، إذ يبدو أن التفاهم المتبادل بين تركيا وروسيا والولايات المتحدة سوف يحول دون ذلك.
هل ثمّة صفقة كهذه؟
لم يأتِ الضوء الأخضر لمعركة في عفرين في فترة هادئة بصفة خاصة في الحرب السورية. وفي الواقع، فقد جاء في الوقت الذي تتزايد فيه المعارك في ريفَي حماة وإدلب، حيث يسعى النظام والروس إلى استعادة الأراضي باتجاه إدلب والوصول إلى مطار أبو ضهور العسكري.
وكان هذا المطار قد خُصِّصَ ليكون قاعدة عسكرية ستستخدمها القوات التركية في ريف إدلب من أجل مراقبة المناطق التي تندرج ضمن اتفاق ‘خفض التصعيد’، على الأقل وفقاً للتصريحات التركية السابقة في هذا الشأن. غير أنَّ قلق تركيا إزاء المطار تلاشى فجأةً، حيث انسحبت بعض وحدات الثوار التي تدعمها تركيا من المنطقة مما سمح للنظام بالسيطرة على المطار في اليوم الثاني من عملية “غصن الزيتون”. مما يشير إلى اتفاق بين تركيا وروسيا يربط بين هذين الحدثين.
السيناريوهات المحتملة لعملية “غصن الزيتون”:
من الواضح الآن أنَّ المعركة لن تكون بسيطة، على الرغم من الهوة الواسعة في القدرات العسكرية بين الجانبين. ومع ذلك، فنحن ما زلنا في الأيام الأولى من القتال، كما أن وعورة الطبيعة الجبلية العفرينية تُعدُّ ميّزةً لصالح وحدات حماية الشعب الكردي. فعلى سبيل المقارنة مع المعارك التي خاضها الجيش التركي في الباب وجرابلس ضد داعش – والتي استمرت أكثر من ستة أشهر بسبب كثافة تركُّز المدنيين في هذه المدن – فإن من المرجح أن يواجه الجيش التركي نفس المشكلة في عفرين.
ويرجع ذلك إلى أنَّ وحدات حماية الشعب الكردي كانت جزءا لا يتجزأ من السكان المدنيين في عفرين، الذين يفوق تعدادهم بكثير عدد سكان الباب. وتشير التقديرات إلى أن عدد السكان هناك، بما في ذلك أولئك الذين فرّوا من أجزاء أخرى من سوريا، يقارب نحو 600 ألف نسمة.
ومن خلال نظرةٍ فاحصة لسير المعارك التي جرت إلى الآن، يبدو مرجّحاً أن يعمد الجيش التركي والجيش السوري الحر إلى تقسيم المدنية لمنطقتين. وبالتالي شنّ هجوم واحد من الممر القادم من مدينة إعزاز إلى الغرب من عفرين، مما يقسم المدينة إلى قسمين شمالي وجنوبي.
ينبغي أن يحدّ هذا من مشكلة مواجهة منطقة مدنية مكتظة بالسكان، ولكن أغلبية السكان ستبقى في الجزء الجنوبي من المدينة إلى جانب وحدات حماية الشعب الكردي الراسخة في تلك المنطقة.
لن تكون هذه الوحدات قادرة على مواصلة القتال وسوف تتعرض لضغط من الجانبين-الجيش السوري الحر والجيش التركي اللذان يهاجمان من الشمال، بينما سيستخدم الجيش التركي المناطق الواقعة غربي وجنوبي إدلب للإطباق على تلك الوحدات وحسم المعركة.
وبالتالي فإن وحدات حماية الشعب الكردي ستحتاج إلى إذن روسي للوصول إلى الممر الوحيد المتبقي للخروج من المنطقة، والذي يؤدي إلى مواقع الجيش السوري حول مدينة حلب. حيث يمكن من هناك عبورهم إلى المنطقة المحيطة بالرقة التي باتت تحت سيطرتهم بعد هزيمتهم لداعش.
لن ترضى تركيا بالهزيمة في هذه المعركة وستبحث عن الانتصار مهما كلفها الأمر. لأنّ من شأن الهزيمة أن تنعكس سلباً على صورة وسمعة الحزب الحاكم محلياً ودولياً. فوحدات حماية الشعب الكردي هي الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني الذي تحاربه تركيا منذ عقود.كما أنّ هزيمة الأتراك على يد وحدات حماية الشعب الكردي سوف تطرح سؤالاً مفاده: إذا كان الجيش التركي أضعف من أن يُلحِق الهزيمة بهذه القوات، كيف يمكن له إذاً مواجهة التحديات والأخطار الخارجية الأخرى للأمن القومي التركي؟
علاقات وحدات حماية الشعب الكردي مع الجهات الفاعلة الأخرى
قدَّمت وحدات حماية الشعب الكردي المساعدة للجيش السوري في عدد من المناطق مثل المساعدة في إنشاء طريق إمداد يخدم المدنيين والمقاتلين من الميليشيات الموالية للأسد في كفريا والفوعة، فضلاً عن الدور الذي لعبته الوحدات في الحملة التي شنها الأسد والروس في حلب الشرقية.
وعلى الرغم من كل هذا، لم يتمكن النظام السوري من دعم وحدات حماية الشعب الكردي، إذ أن ذلك ينطوي على وضع نفسه في مواجهة مباشرة مع الجيش التركي، وهو أمر لا يرغب فيه الأسد حالياً. وثمة عامل آخر يستحق أن يؤخذ في الاعتبار وهو أنَّ روسيا لن تسمح لللأسد بالتنصل من اتفاقها الدولي مع تركيا وأمريكا.
من جانبها، أصدرت وحدات حماية الشعب التركي بياناً يدعو الجيش السوري إلى دخول عفرين ومواجهة الجيش التركي. ولم يصدر النظام أي بيان أو رد فعل إزاء هذا النداء. وفيما يتعلق بالفصائل المسلحة للمعارضة السورية، فإنها مضطرة للوقوف مع الجيش التركي في هذا الشأن بسبب القتال والعداوة السابقين بين وحدات حماية الشعب والجيش السوري الحر، وعلى الأخص في بلدة عين دقنة حيث دخلت وحدات حماية الشعب البلدة وقتلت ما يقرب من خمسين مقاتلاً من الجيش السوري الحر وعرضت جثثهم في عفرين.
ما الذي يحمله المستقبل لعفرين بعد مغادرة وحدات حماية الشعب الكردي من المدينة؟
بعد مغادرة هذه الوحدات الكردية من مدينة عفرين، فإن المدينة سوف تخضع لسيطرة الفصائل المحلية للمعارضة السورية التي تدعمها تركيا. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه تم اختيار عدد من التنظيمات العسكرية الكردية للقتال إلى جانب الجيش التركي، مثل الذراع الكردي لحركة الأحرار الشام و 300 من المقاتلين الأكراد من “جبهة المشرق”، فضلاً عن جماعات أخرى.
سيصبح ريف حلب الشمالي جزءاً من طريق مباشر يمتد من مدينة جرابلس إلى إدلب. وبالتالي، سيتم استخدام هذا الطريق لنقل آلاف المدنيين من إدلب إلى عفرين في محاولة لتجنّب القصف الجوي اليومي الذي تتعرض له المدينة حالياً والهروب من معركة أكبر بكثير تلوح في الأفق ويمكن أن تنفجر في أي لحظة، لا سيما وأنَّ الجيش السوري قد وصل الآن إلى أطراف إدلب. وهذا سيزيد من نسبة العرب في المدينة على حساب السكان الأكراد المحليين. من الواضح الآن أنَّ المعارضة السورية لم تعد قادرةً على الاحتفاظ بأيّ من الأراضي التي تسيطر عليها حالياً على المدى الطويل طالما أنه لا يوجد اتفاق دولي أو دولةٌ تتحرك لضمان ذلك. وعليه، فإنَّ الوجود التركي في عمق الأراضي السورية وسيطرة تركيا على مساحات شاسعة من شمال سوريا (والتي قد تمتد إلى مناطق أخرى) أصبح الشيء الوحيد الذي يحمي هذه المناطق من استعادة قوات النظام السوري لها.