على الرغم من قدرة النظام على استعادة سيطرته على غالبية الأراضي السورية إلاَّ أنه ما يزال يكافح لاستعادة وظائف الدولة الحاسمة في تلك المناطق. لقد أثَّر الدمار المادي والمالي الكبير على دور الدولة ونطاق وصولها في مناطق سيطرة النظام حتى بعد انتهاء القتال،
فيما يتعلق بالقدرة على الوصول إلى المناطق، لا تزال روسيا تمنع قوات النظام من دخول بعض المناطق التي كانت تحت سيطرة الثوار في السابق، وبالمِثل، لا يزال النظام يفتقر إلى القدرة على فرض احتكاره للعنف أو تقديم الخدمات الأساسية، بالتالي يتم ملء هذه الفراغات أو تفويضها إلى مجموعات غير حكومية أو جهات أجنبية.
على عكس دولة ما قبل 2011 في سوريا، لم تعد الدولة الناشئة كياناً مركزياً واحداً على الرغم من سيطرة النظام القوية نسبياً عليها، لذلك فإن تناول هذه الدولة بالمنظور الكلاسيكي لفهم دينامياتها من خلال نهجِ التحليل من أعلى إلى أسفل قد يكون مضللاً وربما يُفضي إلى نتائج عكسية.
تكوينات مختلفة تبعاً للمنطقة
لم يعُد المعنى الواضح لمصطلح “السيطرة على الأرض”، الذي يشير إلى الوصول الكامل والمطلق، ينطبق على جميع المناطق الموجودة حالياً تحت سيطرة النظام. وبناءً على الديناميات الموجودة على الأرض، يمكن تقسيم سلطة النظام في تلك المناطق إلى ثلاث فئات رئيسية، هي: سلطة كاملة وسلطة مشتركة وسلطة غير موجودة، وبالتالي هناك حاجة إلى فئات فرعية جديدة لرصد التباين الحاصل في سلطة النظام وفهم ظروف ما بعد الاستسلام الحالية كلٌّ على حدِة.
أولاً، هناك مناطق معينة ظلّت دائماً خاضعة لسيطرة النظام مثل وسط دمشق والمناطق الساحلية، وكان من شأن غياب القتال في تلك المناطق خَلقُ ديناميات مختلفة عن بقية المناطق التي تم التنازع عليها بشدة أو استعادتها، وعلى الرغم من وجود جماعات مسلحة محلية وأجنبية بالإضافة إلى قوات دولة أجنبية هناك، فإن قدرة النظام على الوصول وسلطتهُ في تلك المناطق تُعتبران الأعلى في البلاد.
ثانياً، استولى النظام على بعض المناطق مثل داريا وشرق حلب والغوطة. تتحدد سلطة النظام في تلك المناطق إلى درجة كبيرة من خلال الطريقة التي استُعيدت بها ومن الذي استعادها، وتُعتَبر قدرة النظام على الوصول إلى المناطق التي تم الاستيلاء عليها من خلال العمل العسكري و / أو التفاوض مُطلقةً بشكل عام، في حين أن سلطة النظام تُعدُّ أيضاً مرتفعة نسبياً في تلك المناطق، إلاَّ أن وجود جهات فاعلة مسلحة أخرى مدعومة إلى حد كبير من إيران قد أنشأ مراكز قوة ثانوية على المستوى المحلي وأدى إلى إيجاد ترتيبات أشبه بتقاسم السلطة.
ثالثاً، هناك مناطق تقع تحت حماية روسيا مثل بصرى الشام والسهوة ومعربة والجيزة في محافظة درعا. تشمل هذه الفئة أراضي الثوار السابقة التي استعادها النظام من خلال اتفاقيات الاستسلام المباشرة التي توسطت فيها روسيا، وقد منحت تلك الاتفاقات المناطق المُوقِّعة مستوى من الحكم الذاتي المحلي تحت حماية موسكو، وبالتالي فإن قوات النظام غير قادرة على دخول تلك المواقع ولكن لا يزال بإمكانها إنشاء نقاط تفتيش في ضواحيها ومداخلها، وباختصار فإن قدرة النظام على الوصول وسلطته في تلك المناطق تقتصران إلى حد كبير على ما تسمح به روسيا.
احتكار محدود للعنف
لمستوى سلطة النظام في مناطقه تأثير حاسم على قدرته على فرض احتكار العنف، ما يشير إلى قدرة الدولة على إنشاء حق حصري في استخدام القوة أو التهديد بها أو السماح باستخدامها بها ضد سكان مناطقها.
في الفئة الأولى من المناطق، حيث حافظ النظام على سيطرته طوال النزاع، تمكَّن إلى حد كبير من فرض احتكارٍ للعنف من خلال احتواء أو تسريح الجماعات المسلحة الموالية المحلية التي كانت موجودة هناك. لكن هذا الاحتكار موضع خِلافٍ في الفئة الثانية، وهي مناطق الثوار السابقة، بسبب وجود أطراف مسلحة حليفة للنظام. في تلك المناطق، واصلت هذه الأطراف المسلحة استخدام العنف غير المرخص به ضد المدنيين، وكذلك ضد القوات الأخرى الحليفة أو حتى ضد القوات الحكومية. وتختلف الأسباب الكامنة وراء هذه المناوشات من منطقة إلى أخرى.
في بعض المناسبات اندلع القتال بسبب المشاجرات الشخصية بين أعضاء التشكيلات المختلفة، وعلى غرار ذلك، وقعت اشتباكات متقطعة بين الجماعات المسلحة الموالية للنظام بسبب التنافس على الموارد أو السيطرة على الأرض. إضافة إلى ذلك، وقعت اشتباكات بسبب محاولات النظام زيادة نفوذه على الجماعات غير المسلحة، على سبيل المثال، شَهِد حي الحمدانية في غرب حلب اقتتالاً عندما أوقفت دورية تابعة للفرقة الرابعة التابعة للجيش السوري مجموعة من مقاتلي لواء القدس أثناء مرورهم في الحي.
لا يبدو أن احتكار النظام للعنف موجود في مناطق الفئة الثالثة الواقعة تحت حماية روسيا، بدلاً من ذلك، فإن جماعات الثوار السابقة المحلية هي التي تحاول إثبات ذلك. وعلى النحو نفسه، يبدو أن الشرطة العسكرية الروسية وهي المسؤولة عن منع الاشتباكات بين النظام والجماعات المسلحة المحلية، تتمتّع بحق استخدام القوة أو التصريح بها داخل تلك المناطق.
عدم كفاية الخدمات المقدّمة
يتباين وضع وجودة الخدمات التي تقدمها الدولة (مثل الصحة والتعليم والكهرباء والمياه) في مناطق النظام تبعاً لحجم الدمار الذي واجهته تلك المواقع وسيرَتها في المقاومة ضد النظام. ويجعل مستوى الدمار المحدود في الفئة الأولى تقديم الخدمات فيها أولويةَ للنظام لتكون بمثابة مكافأة على ولائها المُفتَرَض، وعلى الرغم من أن وجود المؤسسات المدنية التابعة للدولة في تلك المواقع دون انقطاع يجعل وضعها أفضل من المناطق الأخرى، إلا أن النظام لا يزال يواجه صعوبةً في تقديم خدمات جيدة. تمّ تحسين بعض الخدمات مثل المياه وبدرجة أقل الكهرباء، لكن مخصصات هذه المناطق لا تزال ضيقة وغير موثوقة.
يعتمد وضع الخدمات في الفئتين الثانية والثالثة على مستوى الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية وعِدائها المفترض للنظام، وعموماً، يبدو أن النظام يُركّز على استعادة المؤسسات المدنية للدولة (مثل المحاكم والسجلات المدنية) والرموز (الأعلام وتماثيل الأسد إلى حد كبير) في تلك المواقع، وهو ما تحقّق إلى حد كبير. على مستوى الخدمات، يُركّز النظام جهوده على الحلول السريعة بدلاً من المشاريع الاستراتيجية لإصلاح البنية التحتية، على سبيل المثال، تقتصر الكهرباء التي يتم توصيلها على الكهرباء الحكومية وهي تتوفّر لبضع ساعات فقط في المواقع التي لا تزال فيها شبكة قابلة للتشغيل أو يمكن إصلاحها بتكلفة زهيدة.
وقد طُلِب من المناطق التي تعرّضت لأضرار كبيرة، وهي الأغلبية، ألاّ تتوقع توصيل الكهرباء في أي وقت قريب بسبب نقص الموارد، لكن حتى تلك الحلول قصيرة الأجل محدودة في عدَدها، وبالتالي، يتم استخدامها لمعاقبة المجتمعات التي ما زالت تُعتبر معادية للنظام (مثل تلك المناطق التي استُرجِعَت بعد معارك طويلة) ولمكافأة تلك المناطق التي تُعتَبَر أكثر تساهلاً (مِثل المناطق التي أبرمت اتفاقات الاستسلام بسرعة).
علاوة على ذلك، تعاني جميع مناطق النظام من نقص حاد في الوقود وغاز الطبخ، ما يدفع السكان المحليين للتعبير علناً عن سخطهم إزاء الحكومة.
وكان من شأن قدرة النظام المحدودة على استعادة معظم أدوار الدولة الأساسية السماح للجهات الفاعلة الأخرى غير الحكومية، أو الدول الأجنبية، بأداء وظائف شبيهة بالدولة. وفي مناطق النظام، لعبت المنظمات المحلية والدولية دوراً رئيسياً في توفير الخدمات الإنسانية (مثل الرعاية الطبية وسلال الغذاء والمأوى) ومشاريع إحلال الاستقرار (مثل إصلاح البُنى التحتية للصحة والمياه والتعليم).
على سبيل المثال، تقتصر الرعاية الطبية التي يقدمها النظام في جنوب سوريا إلى حد كبير على قوافل الصليب الأحمر والعيادات المتنقلة المرسلة من مديرية صحة درعا، والتي يقتصر عملها على الحقن والعلاجات البسيطة. كذلك تُعدّ الشركات الخاصة حالياً المزوّد الرئيسي للكهرباء والمياه من خلال المولدات وخزانات المياه في غالبية مناطق سيطرة النظام. وتشمل هذه الديناميات حتى القطاعات السيادية مثل الأمن. من الواضح أن روسيا وإيران مسؤولتان بشكل مباشر عن تمويل وقيادة العديد من الجماعات المسلحة والفصائل المسلحة النظامية من أجل استعادة وتأمين مناطق النظام.
لا يمكن تحقيق فهم عميق لبنية الدولة ووظائفها وقدراتها الناشئة حالياً في مناطق النظام إلا من خلال نهج تصاعدي يركّز على رسم خرائط لشبكات القوى المختلفة، بالإضافة إلى تفاعلاتها فيما بينها ومع مؤسسات الدولة على المستوى المحلي والوطني. يترتّب على الإخفاق في التوصّل إلى هذا الفهم مخاطر من قبيل سوء الفهم لكيفية تغيّر ديناميّات وتركيبة ووظائف الدولة في سوريا نتيجة للصراع، والذي يمكن أن تكون له عواقب وخيمة على احتمالات تحقيق الاستقرار في البلاد حتى بعد انتهاء الصراع.