في أعقاب اتفاق "مناطق خفض التصعيد" الذي جرى توقيعه في العاصمة الكازاخية أستانا في الرابع من شهر أيار/مايو بين الإيرانيين والأتراك، بدأت مرحلة جديدة من الصراع في سوريا وميدانها الرئيسي هو البادية الشرقية التي يُهَيمِن عليها تنظيم داعش في الوقت الراهن. أيّاًّ يكن الفائز في حرب البادية فإنه سيجني مكاسب تتجاوز تبِعاتها حدود سوريا والعراق. وحتى الآن، أولت جميع الأطراف المتحاربة في سوريا أهمية متدنّيةً لمنطقة البادية الشرقية، فالنظام وحلفاؤه من جهة، والمعارضة المسلّحة من جهة أخرى، قد صبُّوا اهتمامهم على مناطق غرب سوريا أو ما يدعوه النظام بـ"سوريا المفيدة" التي تشملُ المنطقة الساحلية على البحر الأبيض المتوسط، وتقع في هذه المنطقة غالبية السكان والمشاريع التي تقدّم الخدمات الأساسية بالإضافة إلى الأراضي الزراعية.
لذا فقد كانت المنطقة مركزاً للاشتباكات بين المعارضة المسلحة والنظام مع امتداد هذه الاشتباكات إلى كلٍّ من حلب وإدلب وحمص ودرعا والمنطقة المحيطة بدمشق وريف حماه. وقد تمثَّلَت أولوية النظام وحلفائه في إنهاء التمرّد المسلح في "سوريا المفيدة" وفي حمايتها من هجمات المعارضة وتنظيم داعش من الشرق عبرَ تأمين خطّ حلب-حمص دمشق. ولكن مع إنهاء جيوب المعارضة في مدينة حلب ومحيط دمشق، بإمكان القوات الموالية للنظام الآن أن تكرِّسَ نفسها للبادية السورية حيث يوجد هدفان عسكريان لحربهم الجديدة في تلك المنطقة، يتمثّل الهدف الأول في تعطيل الجهود التي تبذلها المعارضة المدعومة من الغرب للعمل خارج القاعدة العسكرية الواقعة على الحدود العراقية-الأردنية من خلال تحرير مُدُنِ البوكمال والسخنة ودير الزور من تنظيم داعش، بينما يكمُنُ الهدف الثاني في شنِّ عملية عسكرية واسعة النطاق للسيطرة على طريق دمشق-بغداد، بما في ذلك إحكام السيطرة على الحدود السورية-العراقية قبل التحرّك نحو دير الزور. وقد أعلنت القوات الموالية للنظام عن إطلاق "عملية الخُزامى" للسيطرة على على المثلث المتنوّع عِرقيّاً الذي يربط أرياف حلب وحماه والرقة. ومن شأن سيطرة النظام على هذا المثلث أن تمكِّنه من الوصول إلى مناطق تقع حالياً تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة أمريكياً، مما يفتح الباب أمام عرقلة خطة التحالف الدولي ضد داعش بقيادة الولايات المتحدة والتي تهدف إلى تحرير الرقة بالاعتماد على قسَد كقوات بريّة. وقد وحَّدَت معركة «الفجر الكُبرى» في 25 أيار/مايو من هذا العام -والتي انسحبت فيها قوات داعش من المنطقة الممتدة بين القلمون الشرقي وجنوبي حمص بينما سيطرت فيها قوات النظام على كامل الريف الحمصيّ الجنوبي- كُلّاً من جبهَتَيْ حمص ودمشق، وسوف يتيح ذلك لقوات النظام اختراق مناطق داعش في الشمال الشرقي وصولاً إلى السخنة والتقدّم من هناك إلى دير الزور وكذلك إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في أقصى الشرق على طريق دمشق-بغداد.
كذلك فقد تسبّب الانسحاب المفاجئ لتنظيم داعش وتقدُّمُ ميليشيات النظام في المنطقة إلى عزلِ مجموعات المعارضة في القلمون الشرقي عن تلك المجموعات العاملة في البادية مما قضى على حلمِ المعارضة برفع الحصار عن القملون الشرقي والغوطة الشرقية.
غيرَ أنّ لِحرب البادية هدَفَينِ آخرَين أوسع، فانتصار النظام في البادية الشرقية سوف يُمكِّنهُ من السيطرة على مُعظَمِ الموارد الداخلية للبلاد، من حقول القمح والقطن في منطقة الجزيرة، إلى حقول النفظ في دير الزور، وصولاً إلى الغاز والفوسفات بالقُرب من مدينة تدمر. فالهدف الاقتصادي يتمثَّلُ في إمداد "سوريا المفيدة" بالموارد الضرورية والغذاء، وهو ما سيدعم تشغيل محطات الطاقة وإنتاج الكهرباء والوقود للاستغناء عن عملية توليد الطاقة التي تعتمد على تجارة النفط مع داعش. في شهر كانون الثاني/يناير، وقّعت الحكومتان السورية والإيرانية اتفاقاً لتطوير الإنتاج والاستثمار في منجَمِ الشرقية لاستخراج الفوسفات الواقع في تدمر إلى جانب مشاريع اقتصادية أخرى وصَفَتها وكالة تسنيم الإخبارية بقولها: "تسليم بعض المشاريع لإيران لتنفيذها في سوريا". كما أنَّ بَسطَ النظام وحلفائه سيطرتَهُم على البادية الشرقية يَصِلُ جغرافياً بين الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في سوريا وتلك التي في العراق بهدف استكمال ربطِ أجزاء ما يُعرَفُ "بالهلال الشيعي" أو "المحور الشيعي" الذي يمتدّ من طهران إلى بيروت واللاذقية غرباً، وسوفَ يحولُ ذلك دونَ قيامِ القوات المدعومة أمريكياً والتي تتكون بشكلٍ رئيسيٍ من المعارضة السُنِّيّة ببناء مِحوَرٍ سُنيّ في المنطقة الممتدة على طول الحدود السورية-العراقية من الشمال إلى الجنوب.
ويتزامن تقدّم قوات النظام وحلفائه في البادية الشرقية مع التقدم الذي تُحرِزُه قوات الحشد الشعبي المدعومة من الحكومة العراقية باتجاه الحدود السورية-العراقية. وفي الرابع والعشرين من شهر أيار/مايو، سيطرت ميليشا الحشد الشعبي على الجزء الغربي من ناحية القيروان الواقعة في محافظة نينوى العراقية جنوب جبل سنجار بعد أن كانت تحت سيطرة داعش. ويُعدُّ وصول قوات الحشد الشعبي إلى القيروان بمثابة تمهيد للتقدّم نحو قضاء البعّاج المتاخم لدير الزور. وتُسابِقُ الميليشيات العراقية والإيرانية الموالية للنظام قواتَ المعارضةِ المدعومة أمريكياً والمتمَركِزة في قاعدة التنف على المثلث الحدود السورية-العراقية-الإيراينة للوصول إلى دير الزور، لذا فقد عمدت قوات النظام إلى فتح جبهةٍ جديدة نحو التنف انطلاقاً من ريف السويداء الشرقي على الحدود السورية-الأردنية، فمن شأن السيطرة على المنطقة السماح للقوات الموالية للنظام بإغلاق الحدود في وجه أي تدخُّلٍ عسكري أردنيّ من الجنوب السوري. إنّ تداعيات حرب البادية تتعدّى سوريا والعراق، فمن المحتمل أن تنشأ مواجهة بين روسيا وإيران من جانب والولايات المتحدة والتحالف الدولي من جانبٍ آخر في البادية السورية، فالخبراء العسكريون الروس كانوا على خطوط المواجهة إلى جانب قوات النظام في عملية «الفجر الكُبرى» بينما تعملُ القوات الخاصة الأمريكية في قاعدة التنف وتُواكِبُ قوات المعارضة شرقيّ حمص.
مع تزايُدِ سيطرة النظام على "سوريا المفيدة" فإنَّ معركة البادية تُمثِّلُ فرصةً أمام المعارضة السورية وداعميها الغربيين لمنعِ هذه السيطرة من التوسّع شرقاً. فالمعركة الإستراتيجية الرئيسية القادمة ليست في الرقة وَحَسب، بل في دير الزور أيضاً.