أفضت خمسة عقود من القمع السياسي الممنهج من قبل النظام السوري إلى حرمان البلاد من المساحات المستقلة للأنشطة المدنية والسياسية في مناطق سيطرة النظام. وكان للنزوح السوري على مدى السنوات العشر الماضية تأثير كبير على رأس المال الاجتماعي للبلاد ونمو المجتمع المدني بعد الثورة، مما تسبب في تركُّزِ المجتمع المدني السوري الناشئ بشكل كبير في الشتات، تاركاً الفاعلين المدنيين المستقلين في البلاد في حالة من الهشاشة والقطيعة.
تبحث هذه المقالة في المحددات والديناميات والتحديات الرئيسية لشبكات المجتمع المدني السرية في المناطق التي يسيطر عليها النظام وتقترح عدداً من التوصيات حول كيفية دعمها وتمكينها.
يُستخدم مصطلح الفاعلون المدنيون “السريُّون” هنا للإشارة إلى العديد من الشبكات المستقلة التي تعاني من نقص التمويل والتي تضم الصحفيين والأطباء والمحامين والكتاب والنشطاء السياسيين الذين لا يدعمون الحكومة والذين ينسقون الأنشطة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وينفِّذونها خِفيَةً في مناطق سيطرة النظام.1
وتتمحور غالبية هذه الأنشطة حول خمسة مواضيع رئيسية. أولاً، جلسات التمكين والتوعية السياسية، حيث يجتمع المشاركون خلف أبواب مغلقة لمناقشة القضايا السياسية الرئيسية مثل المواطنة الفاعلة والهوية الوطنية والانتخابات وعملية التفاوض الدستوري المدعومة دولياً.2 ثانياً: الفعاليات الثقافية الممولة ذاتياً، مثل القراءات الشعرية وورش العمل التدريبية في الصحافة والكتابة الإبداعية. ثالثاً، الأنشطة التي تتمحور حول المرأة وتهدف إلى توليد الدخل وتقديم الدعم المالي، وخاصة للنازحات داخلياً. رابعاً، الدعم القانوني للمحتجزين ولمن لديهم قضايا عالقة فيما يتعلق بالسجلّ المدني وحقوق السكن والملكية. خامساً، الأنشطة القائمة على الإغاثة المحدودة النطاق، مثل توزيع السلال الغذائية والنقود للأسر الأكثر ضعفاً، لا سيما أولئك الذين هم “غير آمنين بسبب نشاطهم السياسي”.3
وشارك معظم هؤلاء الفاعلين المدنيين بطريقة ما في الاحتجاجات السلمية للانتفاضة السورية عام 2011. وتتركز شبكاتهم بشكل كبير في محافظتي دمشق والسويداء، حيث توجد مستويات مقبولة من “المساحات الاجتماعية الموثوقة والمخفية” بعيداً عن قبضة النظام الأمنية المشددة.4 وتتباين خصائص هذه الشبكات من منطقة إلى أخرى. ومع ذلك فإنها تتشاطر بعض الخصائص المشتركة.
انعدام الوصول إلى التمويل المستدام. ويُعزى هذا في المقام الأول إلى عامِلَين، أولاً، السيطرة المتزايدة للشبكات المتنفّعة والمتنفذة للنظام السوري على التمويل الدولي، مما يحرم الجهات الفاعلة المستقلة في المجتمع المدني في البلاد من الحصول على هذه الأموال. ثانياً، إغلاق الحدود السورية اللبنانية بسبب جائحة كوفيد-19. إذ يعتبر لبنان إلى حد كبير “المساحة الآمنة الوحيدة المتبقية للنشطاء المقيمين في مناطق سيطرة النظام” والعنصر الأكثر أهمية لـ “إبقاء هذه الشبكات على قيد الحياة”.5 أتاح الوصول إلى لبنان للجهات المدنية السرية الفرصة للتواصل مع المانحين الغربيين والجماعات المدنية السورية الموجودة في الشتات، بالإضافة إلى القدرة على المشاركة في ورش العمل التدريبية ونقل المعرفة. لذلك، أدى إغلاق الحدود إلى تقييد الدعم المالي النادر أصلاً للجهات المدنية السورية المستقلة تقييداً كبيراً.
عدم وجود آليات للتواصل والتنسيق. ويرجع ذلك إلى الافتقار إلى القدرات المؤسسية والمالية، وتنامي الخوف من الاعتقال من قبل الأجهزة الأمنية للنظام، وضعف الروابط مع الجهات الفاعلة في الشتات، والمستويات الحادة من الاستقطاب السياسي والأيديولوجي.
مستويات مرتفعة من مشاركة الإناث. تشهد الأنشطة والمشاريع التي ينظمها النشطاء السريّون ارتفاعاً متزايداً في انخراط النساء، سواءً المشاركات أو المنسقات أو المُنفِّذات. وقد ساهمت أربعة عوامل في هذه الزيادة. أولاً، قدرة المرأة على التحرك بحرية أكبر نسبياً من الرجال في مناطق سيطرة النظام “دون إثارة الشكوك”.6 ثانيًا، التنسيق والتفاعل الموجود مسبقاً بين المنظمات غير الحكومية التي تركز على المرأة في الشتات والناشطات داخل سوريا. ثالثاً، شبكات الدعم التي تقودها النساء، والتي تتجاوز التموضعات الاجتماعية والسياسية. أخيراً، خروج الرجال من مناطق سيطرة النظام، إما خوفاً من الملاحقة القضائية أو لتجنب الخدمة العسكرية الإلزامية. ونظراً لأن “الرجال قادرون على الهروب من البلاد بسهولة أكبر بكثير من النساء”، فإن النساء يُشكّلن الغالبية بين المدنيين في المناطق التي يسيطر عليها النظام.7
تراجع الأثر المجتمعي بسبب الأزمة الاقتصادية الحالية. أثَّر التدهور غير المسبوق في الاقتصاد وارتفاع معدلات الفقر، بالإضافة إلى النقص الحاد في الوقود والقمح، بصورة كبيرة على حافز الناس واستعدادهم للمشاركة الفاعلة في العديد من الأنشطة الاجتماعية والسياسية غير الإغاثية التي تنظمها هذه الشبكات.
توصيات للمانحين الدوليين وواضعي السياسات
يجب على المانحين الدوليين والشتات السوري اتخاذ إجراءات لدعم نمو واستمرارية شبكات النشطاء السرية في سوريا. وتشمل الإجراءات الواجب اتخاذها ما يلي:
1. رأب الصدع بين سوريا والشتات.
يجب أن تركز المنظمات غير الحكومية السورية التي تتخذ من الشتات مقراً لها على إنشاء منصات تنسيق وآليات اتصال آمنة ومأمونة مع الجهات الفاعلة المستقلة داخل البلد. ويشمل ذلك زيادة تمثيل هؤلاء الفاعلين في ورش العمل والاجتماعات رفيعة المستوى التي تعقد في البلدان المجاورة – لا سيما لبنان – عندما يتم رفع قيود كوفيد-١٩ بالإضافة إلى ذلك، يجب تعزيز قدرة هذه الجهات الفاعلة على المشاركة في الاجتماعات عبر الإنترنت من خلال تزويدهم بالدعم اللوجستي الأساسي، مثل باقات الإنترنت ومولدات الكهرباء. أخيراً، يجب على المانحين الدوليين دعم جهود مجموعات الشتات السوري للتنسيق مع بعضها البعض ووضع استراتيجيات مبتكرة للتعامل بأمان مع الجهات الفاعلة المستقلة داخل سوريا.
2. تحديد أولويات المتلقّين للتمويل الدولي والدعم المؤسسي وترتيبها.
تتطلب هذه العملية استعداداً سياسياً من المانحين الدوليين للتعاون الوثيق مع الشتات السوري لتحديد ودعم تلك الجهات والجماعات المدنية الموجودة داخل البلاد والتي لم تحتويها شبكة المحسوبية التابعة للنظام وأعوانه. يجب أن تضمن هذه العملية أيضاً سرية النشطاء داخل البلاد وأمنهم.
3. اعتماد آليات تمويل مرنة.
غالبية الفاعلين المدنيين المستقلين السريين لا يلبون متطلبات المانحين من حيث القدرة المالية والمؤسسية. لذلك، يمكن أن يكون الاعتماد على المنظمات غير الحكومية السورية الموجودة في الشتات كجهات تحصل على منح أو تكون وسيطة / شريكة منفِّذة، وسيلة لدعم الحركات الشعبية المستقلة في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، يجب على المانحين اعتماد خطط تمويل مباشرة ومرنة للبرامج منخفضة المخاطر داخل سوريا، مثل المنح الصغيرة للصحافة الاستقصائية المستقلة والدعم القانوني والفعاليات الثقافية.
4. زيادة الدعم للمبادرات التي تقودها المرأة وتركز على المرأة داخل مناطق سوريا التي يسيطر عليها النظام.
كما ذكرنا سابقاً، فإن لدى العديد من المنظمات غير الحكومية في الشتات التي تركز على المرأة بالفعل روابط راسخة مع مجموعات مماثلة داخل سوريا. ويمكن لهذه المنظمات غير الحكومية أن تعمل بمثابة قنوات لزيادة الدعم المالي وتقديم المساعدة في بناء المؤسسات للشبكات النسائية المستقلة في المناطق التي يسيطر عليها النظام.
تُشكّل الشبكات السرية للجهات الفاعلة في المجتمع المدني المستقلة في المناطق التي يسيطر عليها النظام نواة أي عمل جماعي محتمل بقيادة مدنية في سوريا ما بعد الصراع، والذي يمكن بدوره أن يمهد الطريق لانتقال ديمقراطي ومشاركة مجتمعية نشطة في المجال العام.
1 غريبة م. (2020). واقع وآفاق الفاعلين في المجتمع المدني في مناطق سوريا التي يسيطر عليها النظام. تشاتام هاوس. https://syria.chathamhouse.org/research/reality-and-prospects-for-civil-society-actors-in-regime-held-syria
2 محامٍ من دمشق في حديث مع الكاتب بتاريخ 10/4/2021
3 عامل في المجال الإنساني يقطن في دمشق في مقابلة مع الكاتب بتاريخ 10/4/2021
4 صحفي وناشط مجتمع مدني مقيم في دمشق في مقابلة مع الكاتب بتاريخ 09/04/2021
5 ناشط مجتمع مدني من السويداء في مقابلة مع الكاتب بتاريخ 11/4/2021
6 صحفي وناشط مجتمع مدني مقيم في دمشق في مقابلة مع الكاتب بتاريخ 09/04/2021
7 المرجع نفسه.