تراجعت حقبة التجنيد السلفي واسع النطاق في سوريا، بيدَ أنَّ أفكار السلفيين حول العنف بوصفه حلاًّ، سوف تستمر.
منذ بداية الثورة السورية ضد القوات الحكومية، جذبت الجماعات السلفية المسلحة أتباعها وأثَّرَت فيهم من خلال انتهاجها الخطاب الديني.
استخدمت هذه الجماعات الورقة الطائفية لتحفيز مشاعر الجمهور السني بحجّة أن النظام الذي يهيمن عليه العلويون هو عدوهم طيلة قرون مضت. وبُغية استقطاب أتباع له في سوريا؛ ركّز هذا الخطاب على فكرة أن العلويين ليسوا مسلمين وأن ابن تيمية صنَّفهم على أنّهم ملَّةً خارجة عن الإسلام.
وقد كانت هذه التصريحات مغرية لمجموعة من الشباب الذين لم يكن لديهم تصورات مسبقة عن أفكار كهذه. وبذلك فإن الجماعات السلفية وجدت في هؤلاء الشبان سلاحاً لمواجهة القمع الذي تمارسه المنظومة الأمنية السورية وذلك باستغلال إحباطهم من تحقيق التغيير السلمي.
كذلك شددت دعاية الجماعات الجهادية على شعار حُكم الشريعة الإسلامية لكسب أتباعها وإقناعهم بأن البلد التي تحكمها الحكومات العلمانية لا تتوافق مع الشريعة. وهكذا بدأت مجموعات من الشباب بالتوافد إلى سوريا على خلفية هذه المعتقدات.
استطاعت الدعاية السلفية بتأثيرها وبلاغة خطابها سحت البساط من تحت الجماعات الإسلامية الأخرى، مثل جماعة الإخوان المسلمين وغيرها. وكان العديد من الشباب قد التحقوا بصفوف أحرار الشام والإخوان المسلمين، لكنهم تركوها وانضموا إلى الجماعات السلفية ودعايتها الجاذبة – مدفوعين بالمشاعر الدينية والأحلام الرومانسية للفتوحات الإسلامية الماضية.
ترافَق هذا الخطاب بعوامل أخرى ساهمت في فعالية استقطاب الأتباع، مثل التنظيم الذي تتسم به الجماعات الدينية السلفية، ووضوح أهدافها، وهيكل سلطاتها المركزي، وجاذبية قادتها وقدراتهم المادية.
انقلاب الموازين
إلاَّ أن هذا “العصر الذهبي” للتعبئة الجهادية قد ولّى، ويبدو أن الأصوات التي كانت تنادي على الأتباع للالتحاق قد صمتت اليوم، في حين أن العديد من الشباب – الأجانب والمحليين على حد سواء – انفصلوا عن الجماعات الدينية، وبات التجنيد اليوم مقتصراً على التنقُّل بين الفصائل. لقد تغير خطاب هذه الجماعات من خطاب يركز على الدعاية للأفكار والأهداف العامة إلى خطاب آخر يهدف إلى تلميع الجماعة.
على سبيل المثال، يمكن لفصيل حُراس الدين الذي شُكِّلَ مؤخراً أن يكسب أحياناً أعضاءً من المنتسبين إلى هيئة تحرير الشام من خلال إظهار نقاط ضعف الأخيرة واتهامها بالتعاون مع تركيا. وهكذا، فإن هذه المجموعة، القريبة من تنظيم القاعدة، قادرة على كسب العشرات من الشبان. وعلى النحو نفسه، اجتذبت هيئة تحرير الشام أعضاء ينتمون إلى بعض الجماعات الثورية الأخرى، مثل فيلق الشام وأحرار الشام، من خلال تقديم نفسها على أنها المجموعة الوحيدة التي لم تدخل في مساومات دولية ولم تمتثل للاتفاقيات الإقليمية.
تُبيّن قضايا كهذه كيف تغيرت دعاية التجنيد من نطاقها العالمي إلى التركيز على الدائرة المحلية الضيقة التي تقتصر على منتَسِبي الفصائل الأخرى. ومن شأن هذا أن يساهم في إحجام العديد من الشباب عن الانضمام إلى أي من الفصائل، بسبب خيبة أملهم في تحويل القضية من مشروع كامل وشامل مبني على “أمجاد الماضي” إلى منافسة فصائلية تقوم على مضايقة الناس للانضمام إلى هذه الجماعات، مثل أصحاب المتاجر الذين يعرضون سلعهم للزبائن.
وقد أدى انخفاض جهود التجنيد السلفي إلى قيام العديد من الشباب بالعمل في منظمات الإغاثة والتعليم، بدعم من المنظمات الغربية. في الماضي، كان الشباب يرون في هذا خطيئة كبرى، لكن روح الهزيمة والفشل المحيطة بالمشروع الجهادي قد دفعتهم للبحث عن أسلوب حياة جديد.
وعلى نفس المنوال، أدت الهزائم التي لحقت بفصائل مثل داعش والنصرة إلى إضعاف التجنيد، وأدت في بعض الحالات إلى انشقاق بعض من قادتها (فقد انشق العديد من الشباب في المناطق السنية إلى نظام الأسد)، وجذبتهم نجاحاته العسكرية. كذلك اتسمت الدعاية الإيرانية هي الأخرى بالتماسك ودقة التعريف، مقارنة بالمجموعات السلفية اليوم. فالتجنيد ليس طائفياً بحتاً، إنّما للنجاح التنظيمي وفي ساحة القتال أهميته.
تَرِكةُ العنف
إلا أنه على الرغم من تراجع الجماعات السلفية، فإن الصراع في المجتمعات المحلية سيساهم في خلق جيل يؤمن بالعنف كوسيلة للانتقام.
ورغم أن بعض الشباب قد تركوا الجماعات السلفية للانضمام إلى صفوف النظام، فإن الغضب يطغى على كثير من الشباب من جرَّاء المقاربة العشوائية التي ينتهجها النظام السوري وحليفته إيران. فقد عانت الفصائل المعتدلة في الغوطة وحمص وغيرها من المناطق بشكل كبير من عنف قوات النظام وأُجبِرت على الفرار. وسوف يؤدي هذا إلى تغذية التعطّش للثأر بين المعتدلين ودفعهم نحو التطرف العنيف.
ويعني هذا كله أن تفكّك المجتمع السوري وانهياره سيجعل من الصعب تنشئة أجيال تؤمن بالتعايش السلمي والتسوية الطائفية، لا سيّما وأن جراح هذا المجتمع ما تزال ساخنة.