أزمة المستوى المعيشي في سوريا

تسبًّب اقتصاد الحرب بتضخُّم خانق لعامَّة السوريين.

كان من شأن تحوّيل الاقتصاد السوري نحو الانتصار العسكري للنظام وتغليب ذلك على الاعتبارات الاقتصادية أو الاجتماعية أن تَسبَّبب بأزمة دراماتيكية في مستوى معيشةِ عامّةِ السوريين.

وقد ساهم هذا التحول في ارتفاع كبير في أسعار معظم السلع والخدمات في سوريا، بما في ذلك السلع الغذائية الأساسية، مقابل انخفاض الرواتب والأجور. وبحسب ما تشير إليه أرقام الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) ﻓﺈن 11.2 ﻣﻠﻴﻮن ﺷﺨﺺ ﺑﺤﺎﺟﺔ ﻣﺎﺳﺔ ﻟﻠﻤﺴﺎﻋﺪة اﻟﻐﺬاﺋﻴﺔ، فيما ﻳﻌﺎﻧﻲ 6.7 ﻣﻠﻴﻮن ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ اﻧﻌﺪام اﻷﻣﻦ اﻟﻐﺬاﺋﻲ، وﻳوجد 4.5 ﻣﻠﻴﻮن آخرين عُرضةً لﺧﻄﺮ اﻧﻌﺪام اﻷﻣﻦ اﻟﻐﺬاﺋﻲ.

وتشيرُ تقارير مرصد العمل للدراسات والبحوث (The Labor Observatory for Studies and Research) إلى أن دخل المواطن السوري العادي يبلغ 33 ألف ليرة سورية. وهذا أقل بثلاث مرات من تكاليف الغذاء اللازمة لعائلة متوسطة من خمسة أفراد في دمشق – التي تصل إلا 101,000 ليرة سورية في الشهر مؤشرّ قاسيون لتكلفة المعيشة شهر.

لقد أجبر مستوى المعيشة المتدهور العائلات على اتخاذ خيارات صعبة من قبيل بيع الأصول، وأخذِ القروض، وإخراج الأطفال من المدرسة إلى العمل ودفعهم إلى الزواج المبكر. كما غذَّى نشاطَ السوق السوداء وانتشار الاختطاف والنهب والتربُّح من الحرب.

لقد جعل النظام التنشيط الاقتصادي جزءاً من محاولته "تسويق" فكرة عودة الدولة السورية لدى الناس في المناطق التي استعادها من الثوَّار. في محافظة درعا الجنوبية، وهي معقل للثوار سيطر عليه النظام في شهر تموز/ يوليو الماضي، وعدَ النظام بفتح المعبر الحدودي الجنوبي، وإنشاء معارِض مختلفة، وإعادة تأهيل المدن الصناعية، وإزالة الحواجز في المدن وتأمين الدعم الدولي. لبدء إعادة الإعمار.

ومع ذلك، لا تعالج أي من هذه الخطوات المشاكل الحقيقية التي تواجه المجتمع من انخفاض الأجور والأسعار الخارجة عن السيطرة.

لقد اعتادت الحكومة السورية على طرح ميزانيات تضخمية على مدى السنوات السبع الماضية، دون النظر في الإنتاج أو كمية الاحتياطيات النقدية. تسبَّب هذا النهج في زيادة التضخم بنسبة 521 ٪ من عام 2010 حتى أيار/مايو 2016، في حين أن مؤشر التضخم عام 2013 بلغ 388 ٪، وفقاً لمكتب الإحصاءات المركزي السوري.

تعكس أسعار الخبز واللحوم والخضروات صورة جيدة للمعدل الحقيقي. في 17 تشرين الأول/ أكتوبر من هذا العام، بلغ سعر الكيلوجرام من اللحوم 4,500 ليرة سورية، في حين بلغ 600 ليرة سورية في عام 2011. في نفس التاريخ، بلغ سعر كيلو الطماطم 200 ليرة سورية، مقارنة بـ 50 ليرة سورية في الماضي، في حين قفز سعر السكر من 25 ليرة سورية إلى 250 ليرة سورية.

يشدد البعض على الحاجة إلى زيادة الرواتب في القطاع العام بمقدار الضعف أو أكثر لمواكبة الزيادة العامة في الأسعار. ولكن بالنظر إلى أن وسائل الإنتاج توقفت تماماً وأن احتياطيات النقد الأجنبي قد جُمِّدَت مركزياً، فإن مثل هذه الزيادة في المعروض من النقد ستصاحبها زيادة في معدل التضخم – وبالطبع لن يفيد سوى موظفي القطاع العام، ليس عمال القطاع الخاص أو العمال المياومين.

يُعتبر المنظور الإنتاجي جزءاً هاماً في فهم مستوى أزمة المعيشة، لأن انخفاض معدلات الإنتاج في جميع القطاعات، ولا سيّما قطاع الزراعة، يعكس الزيادة المحلية في أسعار المواد الغذائية والمنتجات.

تَدَهوَر القطاع الزراعي إلى مستوى غير مسبوق، إذ تشير آخر التقارير إلى انخفاض إنتاج القمح إلى 1.2 مليون طن، وهو أدنى مستوى خلال 29 عاماً، وفقًا لأحدث تقييم للمحاصيل الغذائية أجرَتهُ منظمة الأغذية والزراعة (فاو) وبرنامج الغذاء العالمي.

ويعزى ذلك إلى طول فترة الجفاف ونقص الأمطار الغزيرة خارج الموسم في الفترة التي سبقت عام 2011، يليها الصراع الذي أدى إلى تدمير مناطق زراعية كبيرة وتشريد الآلاف من المزارعين فضلاً عن الزيادة الحادة في تكلفة المدخلات الزراعية. يخطط النظام السوري لاستيراد حوالي 1.5 مليون طن من القمح الروسي هذا العام، في حين كانت سوريا قبل عام 2011 مكتفية ذاتياً من القمح.

لتزويد القطاع الزراعي بالموارد المالية اللازمة، من الضروري فتح فرص الاستثمار الأجنبي بضمانات حقيقية وتشجيع إنشاء الشركات الزراعية التي تساهم في سوق الأوراق المالية، مع فرض شروط موضوعية تحمي المواطنين من جشع الشركات.

ومن شأن اعتماد الهوية الاقتصادية الزراعية القائمة على إصلاح القطاع الزراعي وزيادة إنتاج المحاصيل الزراعية المختلفة، وكذلك الاهتمام بالمناطق الريفية والعمال الزراعيين والأراضي كوسيلة للإنتاج وليس كسلعة لبيعها – بغرض الحصول على عائدات مالية من الإيجار – من شأنه أن يسهم في زيادة المعروض من المحاصيل الغذائية الأساسية في السوق بأسعار منخفضة في متناول الجميع.

لكن لا يبدو أن النظام يعتزم اتخاذ هذا المسار. فهو يمنح معظم الفرص التجارية لنخبة التجار القريبين منه ويضع سياسات الاستيراد التي تفيد هؤلاء التجار وحليفَيه روسيا وإيران. ومع استمرار هذه الممارسات، سيغادر المزيد من المواطنين البلاد وسيُجبَر بعض المزارعين على بيع أراضيهم مقابل المال، مما يخفض الإنتاج الزراعي أكثر، ويزيد من ارتفاع الأسعار، وبالتالي يديم أزمة مستوى المعيشة.