يجب أن يحمي دستور سوريا المستقبلي المفقودين وعائلاتهم مع ضمان عدم تكرار الجرائم التي تسببت في هذه الأزمة.
يُقدَّر عدد المفقودين في سوريا بنحو 100,000 شخص، وهي قضية ستكون لها عواقب اجتماعية وسياسية خطيرة لعقود قادمة. مضت سنتان منذ أنشأت الأمم المتحدة اللجنة الدستورية السورية، غير أنَّ العملية الدستورية لا تزال متوقفة إلى حد كبير عند المسائل الإجرائية. ولم يتضح بعد ما إذا كانت المحادثات ستُكلّل بالنجاح، لكن ينبغي أن يبدأ العمل الآن على دستور يوفِّر الضمانات المؤسسية الضرورية والحماية القانونية للسوريين، والأهم من ذلك، حقوق المفقودين والمختفين. ويجب أن يتضمن أي دستور مستقبلي وسائل حماية وآليات لمعالجة حقوق المفقودين وعائلاتهم. كما يجب أن تضمن الأحكام الدستورية أيضاً عدم تكرار جرائم الاختفاء القسري من خلال تجريم هذه الأفعال وتوفير الإطار الأساسي لدعم سيادة القانون وفصل السلطات.
فريق تنسيق السياسات للمفقودين والمختفين في سوريا (PCG)؛ مبادرةٌ بقيادة سورية تُعنى بالمفقودين والمختفين وتُيَسِّرها اللجنة الدولية المعنية بالأشخاص المفقودين (ICMP). ويتألف الفريق من 27 عضواً بما في ذلك ممثلو جمعيات الأسرة السورية، وعائلات المفقودين، ومنظمات المجتمع المدني، والمدافعين عن حقوق الإنسان، فضلاً عن المستشارين الدوليين. وقد أصدر الفريق مؤخراً ورقة بشأن المبادئ الدستورية التي يجب تضمينها في الدستور المستقبلي لضمان تلبية حقوق الناجين فيما يتعلق بالأشخاص المفقودين والمختفين.
خلال صياغة المبادئ الدستورية، تشاورت المجموعة مع خبراء العدالة الدستورية والانتقالية السوريين وغير السوريين، وراجعت البحوث والمنشورات والصكوك الدولية ذات الصلة، ودرست دساتير سوريا السابقة والحالية، كما أجرت مشاورات مع جمعيات العائلات السورية ومجموعات الضحايا ومنظمات المجتمع المدني.
التاريخ الدستوري لسوريا
لا يوفر الدستور السوري الحالي ولا تشريعاته ضمانات كافية للمفقودين وعائلاتهم. فمنذ أول دستور لسوريا في عام 1920 وحتى الوقت الحاضر، كانت الأحكام الدستورية للحقوق والضمانات تتباين أو تتوسع أو تنكمش تبعاً للنظام السياسي في السلطة. وعلى سبيل المثال، وُضِع دستور عام 1950 من قِبَل جمعية تأسيسية موسسة ديمقراطياً، وقد حظرَ ذلك الدستور الاعتقال التعسفي وتضمَّنَ الحق في إبلاغ الشخص كتابياً بأسباب اعتقاله في غضون 24 ساعة، والمثول أمام قاضٍ في غضون 48 ساعة.
ولئن كان دستور عام 1973 ودستور 2012 اللذان وضِعا في ظل حكم حزب البعث أضعف من دستور عام 1950 لناحية ضمان الفصل بين السلطات وسيادة القانون، إلا أنهما يحتويان على بعض الضمانات المماثلة التي تم تقويضها لاحقاً بمراسيم تشريعية. وعلى سبيل المثال، في دستور 2012، تنصُّ المادة 53 على أنه "لا يجوز استجواب أي شخص أو اعتقاله، إلا بموجب أمر أو قرار صادر عن السلطة القضائية المختصة"، كما تنُصُّ على أنه يجب إبلاغ أي شخص يُلقى القبض عليه بأسباب اعتقاله وكذلك بحقوقه. وعلى الرغم من هذه الحماية الدستورية، إلاّ أنّ المراسيم التشريعية تسمح بالاختفاء القسري للأفراد، وحالة الطوارئ المطولة التي استمرت لنحو نصف قرن، مقرونةً بالحكم الاستبدادي، قيَّدت جميعها الحريات والحقوق الدستورية. كذلك فإن الدستور السوري لا يوفِّر المجموعة الكاملة من الحماية التي ينبغي توفيرها للمفقودين وعائلاتهم.
الآمال المعقودة على الدستور كبيرة
لا يجب أن يوفر الدستور السوري المستقبلي الحق في الحياة والكرامة فحسب، بل ينبغي أن يتضمن أيضاً وبشكل صريح الحق في إجراء تحقيقات ناجعةٍ ورسمية في حالات المختفين والمفقودين، فضلاً عن الحق في المحاكمة العلنية والعادلة. وعلاوةً على ذلك، ينبغي أن تكون هناك حماية لا لبسَ فيها من الاختفاء القسري والتعذيب واستخدام المحاكم العسكرية في الأمور المدنية – بما في ذلك محاكمة الأحداث – التي تفتقر إلى ضمانات الإجراءات القانونية الواجبة. فبالنظر إلى التاريخ والعدد الهائل للمفقودين والمختفين في سوريا، يجب أن يتضمن دستورها إمّا في متنِه أو كجزء من ملحق أو جدول، أحكاماً ونصوصاً أساسية وسيطة بشأن العدالة الانتقالية، لتحديد مصير عشرات الآلاف من المفقودين، بما في ذلك إنشاء لجنة الأشخاص المفقودين، وكذلك إجراءات المساءلة لصالح عائلات المفقودين، بما في ذلك التعويض العادل.
لقد نتجت أزمة الأشخاص المفقودين في سوريا عن بنيتها السياسية التي تقوم عليها على مدى العقود الستة الماضية، لذا يجب أن يتضمن أي دستور مستقبلي أحكاماً للحماية من سَنّ النصوص والقوانين التي تنتهك الحقوق الدستورية. ويشمل هذا، على سبيل المثال، إنشاء محكمة دستورية مستقلة ومحايدة لمراجعة دستورية القوانين والتأكد من أنها لا تقيّد الضمانات الدستورية أو تقوّضها. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يَنُص الدستور صراحةً على الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهو أمر ضروري لمنع الحكم الاستبدادي في المستقبل.
كان لقضية الأشخاص المفقودين تأثير كبير على النساء، إذ غالباً ما يكون الرجال في عداد المفقودين، وعادةً ما يتركون النساء غير قادرات على الميراث أو حضانة الأطفال أو طلب الطلاق. لذلك يجب أن يضمن الدستور المساواة الكاملة بين الجنسين في جميع الحقوق وعدم التمييز على أساس أي وضع محميّ، بما في ذلك الجنس والدين والمعتقد السياسي. كما ينبغي أن يُوفِّرَ الحريات الأساسية حتى لا يختفي الأشخاص من أجل الحقوق المحمية، مثل التجمع السلمي والرأي السياسي والتعبير.
ومع أنّ إعادة صياغة الدستور السوري لن تحل الصراع المستمر منذ عقد من الزمن والمتجذر في تاريخ من الديكتاتورية وانتهاكات حقوق الإنسان، إلاّ أن الدستور القوي الذي يوفر الضمانات والحماية للمفقودين وعائلاتهم سيكون ركيزة أساسية لأي دولة مستقبلية تقوم على أساس سيادة القانون. ويجب أن يعالج أي دستور مستقبلي محنة المفقودين وأن ينطوي على ضمانات لضمان عدم تكرار الجرائم التي تسببت في هذه الأزمة. وما لم يتحقق ذلك فسوف تظلُّ سوريا في حالة اضطراب.
_______________________________________________________
[i] كما أصدر فريق تنسيق السياسات للمفقودين والمختفين في سوريا ملف ميثاق أخلاقي بشأن جمع البيانات وتوثيق المفقودين في سوريا وقدّم تقريراً بشأن قضية المفقودين السوريين للاستعراض الدوري الشامل للأمم المتحدة.