سوريا اليوم في أحلك أوقتها

 

حين كتب آلان جورج كتابه الذي بعنوان سوريا: لا خبز ولا حرية في عام 2003 بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد، لم يكن يعلم أنّ هذا العنوان من شأنه أن يلخّص الوضع في سوريا اليوم أفضل تلخيص. فبعد عشر سنوات على بدء الثورة، أصبح الوضع في سوريا أسوأ من أي وقت مضى، بينما يبحث العالم في مكان آخر. 

أسوأ سنوات سوريا

 ظلامٌ دامس، تُظهِر صورةٌ بقعةَ ضوء تسطع على أشخاص محشورين معاً داخل قفص حديدي، بعضهم واقفٌ، والبعض الآخر يجلس القرفصاء، وجميعهم يحدقون بقلق. للوهلة الأولى، قد يعتقد المرء أن هذه صورة من زنزانة سجن، لكنها في الواقع طابور الانتظار للحصول على حصص الخبز في سوريا الخريف الماضي. 

ولئن كانت الأقفاص قد أُزيلت لاحقاً، فإن طوابير انتظار الخبز ما تزال طويلة. وكانت الحكومة أصدرت بطاقات ذكية تسمح للمواطنين بشراء الخبز والوقود بأسعار مدعومة، غير أنّ المرء يمكن أن ينتظر ثماني ساعات في المتوسط للحصول على حصة الخبز اليومية وحوالي 48 ساعة لملء السيارة بالوقود. ففي سوريا اليوم، إذا فقدت مكانك في الطابور، فإنك تنام جائعاً، وثمّة شعور بأن الجوع هو السلاح الجديد الذي اختاره النظام. 

"هذه أسوأ سنةٍ واجهناها منذ بدء الثورة"، لطالما سمعت هذه الجملة مراراً وتكراراً عندما زرت دمشق التي تسيطر عليها الحكومة في أواخر عام 2020. ويشكو أبناء الطبقة الوسطى الآخذة في الانكماش من أنه "حتى في أثناء عمليات القصف الجوي والبريّ لم نشعر بالإذلال من أجل الحصول على الطعام". وبحسب منظمة الصحة العالمية، فقد تركت الحرب ما يقرب من 90 في المائة من السكان تحت خط الفقر. وبحلول عام 2011، انهارت قيمة الليرة السورية انهياراً كبيراً (سعر الصرف في السوق السوداء اليوم هو 1 دولار لكل 4000 ليرة سورية اليوم، مقارنة بـ 50 ليرة سورية في عام 2011) مما يعني أن متوسط راتب الموظف السوري في القطاع العام يكفي لشراء كيلوغرام واحد فقط من اللحوم. وبينما حاول معظم السوريين خفض نفقاتهم عن طريق الاكتفاء بشراء الضروريات فقط، مع ذلك، بالنسبة للكثيرين، حتى الأساسيات أصبحت بعيدة المنال.

الحُكم فوق الحطام 

وبالطبع، يحدث هذا كله وسط تفشّي جائحة فيروس كورونا. وعلى الرغم من أنّ الجائحة ألقت بظلالها على الاقتصادات في جميع أنحاء العالم، إلا أن تأثيرها في سوريا جعل الوضع ينتقل من سيء إلى كارثي.

في دمشق، نادراً ما يرتدي أحدٌ كمامة، والأمر مزيج من إرهاق الحرب والشعور بالعجز، فالناس يكابدون الناس للحصول على ما يكفي من الطعام للسدّ الرمق ولا يهتمون كثيراً بالفيروس. أخبرتني إحدى النساء قائلةً: "نحن ميّتون على أي حال، فمن يأبه لكورونا". لقد أصبحت مشاهد الأشخاص الذين يبحثون عن بقايا المنتجات في أسواق الخضار أو في صناديق القمامة مشاهداً شائعة بازدياد.

لقد أصبح كلُّ ما ثار عليه السوريون عام 2011 أسوأ بكثير. فالاقتصاد ينهار، وقد تحوّل حكم الحزب الواحد إلى حكم أشبه بالمافيا في ظل تعدّد الفصائل المختلفة، وصارت القبضة المُحكَمة لقوات الأمن اليوم تشمل شبيحة النظام والميليشيات وأمراء الحرب. في الماضي، كان الناس يقولون إن لكل سوري/ة ضابط أمن يتنصّتُ عليه/ا. أمّا الآن، فلكل سوري أيضاً شخص يسرق خبزه وكرامته وحياته.

وحتى الموالون للنظام الذين يتجرأون على الشكوى من الظروف الحالية يُعاقبون ويُسجنون. في الأسابيع القليلة الماضية، جرى اعتقال ما لا يقل عن 150 من الموالين.

يزعم النظام السوري أنه انتصر في الحرب. يتفق بعض المراقبين الخارجيين على هذا الأمر، وهو أمر إشكالي للغاية، فـ"انتصار" الأسد ليس أكثر من حُكمِ النظام لحُطام سوريا. وبينما يزعم النظام أنه يريد استعادة السيادة على البلاد، فإن الحقيقة هي أن سوريا بلد مقسّم حيث يتوزّع النفوذ بين النظام والولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وكذلك الجماعات الكردية والإسلامية. يتحكم كل لاعبٍ من هؤلاء اللاعبين في جزء من البلاد، وبالتالي يتحكمون بمصائر السوريين الذين لا رأي لهم في حاضرهم أو مستقبلهم.

ويحاول نظام الأسد الذي يعاني ضائقة نقدية – بعد أن استنزف مصادر العملات الأجنبية  وهو الخاضع لعقوبات دولية – انتزاع كل ما في وسعه من مواطنيه، حتى أولئك الذين فرّوا من البلاد. ويتوجّب على كل سوري أن يدفع 100 دولار نقداً عند دخوله البلاد، كما يتوجّب على أي شخص لم يخدم في الجيش – ولا يريد – أن يدفع تعويضات تصل إلى 7000 دولار لإعفائه من الخدمة. وفي الحالات التي لا يرغب فيها السوريون في الخارج بالعودة ويرفضون دفع البدل أو لا يستطيعون دفعه، فإن السلطات السورية ستصادر أي ممتلكات تخص عائلاتهم داخل سوريا كما أن أي وثائق قانونية قد يحتاجونها، مثل جوازات السفر، سوف تُعلّق حتى يتم السداد. وهناك قائمة طويلة من الأمثلة، مما يضيف إلى المعاناة الهائلة لـ 9 ملايين نازح سوري داخلي و6 ملايين ممن فرّوا ولجأوا إلى جميع أنحاء العالم. 

ما مِن ضوء في نهاية النفق

دمشق تغط في الظلام بلا وقود ولا ضوء في نهاية النفق. لا أمل لخلاص سوريا من الداخل، كما لا توجد إرادة دولية لإيجاد حل أو حتى قوة لتنفيذ قرارات سبق أن اتفقت عليها الأمم المتحدة، وهي كيان يرى الكثير من السوريين أنه أخفق في سوريا.

كذلك فإن الوضع الإقليمي قد تغير أيضاً، فقد كان من شأن التقارب بين إسرائيل ودول الخليج، إلى جانب قضايا إقليمية أخرى، أن تراجع موقع سوريا اليوم في قائمة أولويات الجهات الفاعلة الإقليمية مثل المملكة العربية السعودية. كما أن العالم مشغول أيضاً بمشاكله الخاصة. وعلى سبيل المثال، من المرجح أن تركز الإدارة الأمريكية الجديدة بشكل أكبر على الشؤون الداخلية والأولويات الأخرى في الشرق الأوسط، مثل إيران. 

وبينما يكافح العالم الآثار الاجتماعية والاقتصادية لفيروس كورونا، يستعد بشار الأسد للترشح لولاية رئاسية ثالثة تُبقيه في السلطة لمدة سبع سنوات أخرى. كما أن سلطة ونفوذ زوجته أسماء الأسد آخذان في الازدياد، ويُعتقد أنها كانت في الواقع وراء تهميش رامي مخلوف، ابن عم الرئيس وأحد زعماء المال والاتصالات.

تحتاج سوريا إلى الثورة اليوم أكثر من أي وقت مضى، وعلى الرغم من أن السوريين لا يريدون أن يفقدوا الأمل، فإن أولئك الذين في داخل البلاد يعانون من الجوع والاستنزاف والخوف، فيما يسود الانقسام بين من هم خارجها. وقد فشلت المعارضة في تحقيق التغيير. أمّا المجتمع المدني فلا يزال سَبّاقاً ويقوم بعمل مثير للإعجاب في تقديم المساعدة الإنسانية والضغط على المجتمع الدولي. ومع ذلك، فقد تحول اهتمام المجتمع الدولي بعيداً عن سوريا وأصبح دوره الآن يقتصر إلى حد كبير على توفير الغذاء والمساعدات الأساسية. 

هناك جيل من الأطفال ولدوا خلال الحرب، بعضهم ولد في سوريا، والبعض الآخر في أوروبا والبعض الآخر في مخيمات اللاجئين. وما لم يكن هناك التزام دولي متجدد، فإن جيل هؤلاء الأطفال قد لا يشهَد التغيير الحقيقي في سوريا.