أدت مقاومة الجماعات المسلحة والسأم من الحكومة غير الفعالة إلى نشوء حراك مدني من القاعدة إلى القمة.
أجرت سراقب للمرة الأولى في سوريا منذ عام 1953 انتخابات مباشرة اختار فيها الناخبون ممثليهم في المجلس المحلي.
هذا بحدّ ذاته لافتٌ للنظر، ولكن ما يجعل الأمر أكثر إدهاشاً هو أنَّ المدينة تقع في شرق إدلب؛ المحافظة التي وصفها بريت ماكغورك المتحدث باسم التحالف الدولي المناهض لتنظيم داعش بأنها تمثّل “أكبر ملاذ آمن للقاعدة منذ التاسع من أيلول 2011″، إذ تسيطر حركة تحرير الشام (جبهة النصرة وجبهة فتح الشام سابقاً) على معظم المحافظة عسكرياً.
غير أن سراقب شهدت تحولاً كبيراً في الديناميات بين الجماعات المسلحة والمجتمعات المحلية والمؤسسات الممثلة لها.
كان أداء المجلس المحلي، الذي كان يعينه مجلس الأعيان في البلدة ويتكوّن من الوجهاء العائليين والنخب الأخرى فضلاً عن أولئك المرتبطين بجماعات مسلحة بارزة؛ أداءاً بالغ السوء وسطَ اتهامات بالفساد والمحسوبية. مما دفع نشطاء سراقب وأعضاء النقابات والمجتمع المدني إلى المطالبة بإجراء انتخابات مباشرة لأعضاء المجلس.
سعى سكان سراقب أيضاً إلى إبقاء البلدة محايدة في مواجهة الصراع على السلطة بين هيئة تحرير الشام وأحرار الشام التي تحظى بوجود لها في سراقب وتحاول كسب دعم الجماعات المسلحة المحلية هناك. في الفترة التي سبقت الانتخابات، شنّت هيئة تحرير الشام هجوماً على أحرار الشام في سراقب، ولكن ذلك أدى إلى اندلاع حتجاجات ضدها من قبل سكان المدينة دفعت بهيئة تحرير الشام في نهاية المطاف لسحب مقاتليها المهاجمين من المدينة.
العملية الانتخابية
كشفت عملية التحضير للانتخابات عن تزايد الوعي بضرورة إثبات قدرة المرشحين على الاستجابة لاحتياجات السكان من الخدمات، بدلاً من الاعتماد على مركزهم الاجتماعي كوسيلة أساسية ليحظى المرشح بالقبول الاجتماعي. وقدّم المرشحون برامج انتخابية وشاركوا في المناقشات العامة قبل أسبوع من التصويت استجابة لدعوة من نقابة المهندسين ومنتدى بوابة إدلب، وقد بُثَّت المناقشات مباشرة على محطة الإذاعة المحلية، ألوان، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
جاءت انتخابات سراقب بعد شهرين ونصف من التحضير والتشاور والعمل المستمر بين مختلف القوى السياسية والمدنية التي شكّلَت لجنة انتخابية مكونة من 92 مراقباً، فضلاً عن لجنة استئناف تتألف من ثلاثة قضاة ومحامين، كما شارك فيها أيضاً ممثلون عن الحكومة السورية المؤقتة للإدارة المحلية، واللجنة السياسية لمحافظة إدلب، ومجلس محافظة إدلب الحر، ومنظمات المجتمع المدني وعشرات الصحفيين المحليين.
وفي مطلع حزيران/يونيو، كلّف مجلس الأعيان في سراقب لجنة الانتخابات بالتحضير للانتخابات المباشرة للمجلس المحلي، ودعت اللجنة أى شخص يحمل شهادة الثانوية العامة إلى شغل منصب رئيس المجلس، وذكرت أنه سيسمح لكل شخص يتجاوز سن 18 عاماً وهو مقيّدٌ في السجل المدنى بالتصويت. واستند القانون الانتخابي الذي جرى استخدامه إلى قانون الإدارة الذاتية صدر في عام 2011 كأساس لتشغيل المجالس المحلية.
وبعد عملية الترشيحات والطعون التي شملت المرشحين والناخبين، وافقت اللجنة الانتخابية على قائمة المرشحين، بمن فيهم أربعة مرشحين للرئاسة و 15 مرشحاً للمكاتب التنفيذية الثمانية للمجلس.
العوائق أمام المشاركة
شهدت الانتخابات مشاركة عالية من جانب المرأة في العملية الانتخابية، وأظهرت أصوات النساء التي تشكل نحو 36 في المائة من مجموع الأصوات المشاركة، وهي نسبة تفوق بكثير نسبة 23 في المائة من بطاقات الانتخاب، أنَّ نسبة مشاركة النساء المؤهلات للتصويت فاقت بكثير نسبة مشاركة نظرائهن من الرجال.
ولكن على الرغم من أن النساء شاركن في الانتخابات كمراقبات وناخبات وأمينات، فقد غَبْنَ تماماً عن قائمة المرشحين على الرغم من ارتفاع مستوى الكفاءة بين نساء البلدة ممن يعملن في مجال التدريب والتعليم ومختلف الوظائف الإدارية، فضلاً عن مئات النساء العاملات في القطاع الصحي وأجهزة المجلس المحلي والأراضي والسجلات المدنية والمجتمع المدني، مثل المركزين النسائيين – المرأة الآن ومركز بسمات الاجتماعي ومركز قوس قزح للدعم النفسي للأطفال، الذي تديره مقدّمات رعاية ومتخصصات في مجال الرعاية الصحية، ويهتم ب 450 طفلاً.
يمكن أن يعزى تردد المرأة في الترشح للانتخابات أو المشاركة مباشرة في الشؤون العامة إلى استمرار العقلية الريفية ضد مشاركتها السياسية والتي لا تزال تهيمن على المجتمع المحلي، وهي عقلية استمرت منذ ما قبل ثورة عام 2011. كما يُردّ ذلك في بعض جوانبه إلى الانتقادات القاسية لأداء المجلس المحلي من قبل سكان سراقب، الأمر الذي منع مشاركة النساء اللواتي لا يرغبن في التعرض لهذا الانتقاد العلني في مجتمع تقليدي.
هناك عائق آخر أمام الترشح للانتخابات هو الراتب المتواضع الذي يتلقاه العاملون في المجالس المحلية والذي في أحسن الأحوال يقل عن 100 دولار في الشهر، وهو نصف الراتب المدفوع لموظفي المنظمات غير الحكومية الذين يحصلون على ما يترواح بين 200 دولار حتى 1200 دولار شهرياً. وقد جعل ذلك العديد من الخبراء المؤهلين، بمن فيهم المهندسون والمحامون والإداريون، رجالاً ونساء، يترددون في الترشح للمناصب التنفيذية في المجلس. وعلاوة على ذلك، فإن لدى هذه المنظمات في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة موارد مالية هائلة، على النقيض من المجلس الذي تنعكس مشاكله المالية في الخدمات التي يقدمها. ولذلك فإن الأجهزة الإدارية المحلية والفضاء السياسي محرومون من العديد من الموظفين المهرة.
العلاقات مع الجماعات المسلحة
أكدت الانتخابات وما أعقبها من أهمية تأثير المجتمع المدني في سراقب، واعتُبر انتخاب المجلس السابق في عام 2016، حيث كان الناخبون هم أعضاء مجلس الأعيان الذي يضم 200 عضواً و يمثلون جميع عائلات المدينة، خطوة أولى نحو توسيع نطاق المشاركة الشعبية في صنع القرار واختيار الممثلين.
وكان ذلك رداً على اتهامات وُجِّهت إلى المجالس المحلية السابقة بأن الفصائل المسلحة قامت بتثبيت رؤساء المجالس في إطار صفقات بين الفصائل والجهات الثورية الأخرى. وقد أجريت الانتخابات من خلال آلية الترشيح والعروض العامة للبرامج الانتخابية أمام الهيئة العامة لمجلس الأعيان، وأفضت إلى رئيس مجلس اختير عن طريق التصويت.
وبعد انتخاب مجلس أعيان جديد، كُلِّفت اللجنة الانتخابية بتنظيم التحضيرات لانتخابات المجلس الجديدة الرامية إلى تعزيز التجربة الديمقراطية وتوسيع نطاق المشاركة العامة من خلال منح جميع المواطنين الحق في التصويت المباشر ودون تمييز.
وقد دعم الفصيلان المسلحان العاملان في سراقب، وهما جبهة ثوار سراقب المنتمية إلى الجيش السوري الحر وجماعة أحرار الشام الإسلامية الانتخابات التي طالب بها مجلس الأعيان والناشطون السياسيون والتزما إلى حد كبير بقواعد العملية الانتخابية. وقد دعم كل منهما مرشحاً مختلفاً، ولكن بمجرد الإعلان عن النتائج، قبل كلاهما بالفائزين.
وعلى الرغم من حدوث انتهاك في إحدى المراكز النسائية، إلا أن الانتخابات اعتبرت حرة ونزيهة. ويمكن أن يعزى ذلك إلى الزخم الكبير للحركة المدنية التي تركت انطباعها على العملية وأقنعت الجماعات المسلحة بقبول النتائج سلمياً.
الديناميات الاجتماعية الجديدة
ومن التحولات الهامة الأخرى التي أبرزتها الانتخابات زيادة البراغماتية على حساب العلاقات الاجتماعية التقليدية. وعلى النقيض من القاعدة السائدة في ريف سوريا؛ حيث تُعتَمَدُ الانتماءات السياسية أو تُسقَط على أساس قرارات الأسرة والولاءات، فإنّ بعض العائلات في سراقب شهدت انقساماً خلال الحملة الانتخابية، إذ صوت الأقرباء خلافاً لبعضهم البعض، وحظيت التفضيلات الانتخابية بالأسبقية على مصالح الأسرة لأول مرة في البلدة.
وكشف فرز الأصوات أن الطبقة الفقيرة والطبقة الوسطى الدنيا كانت تدعم المرشحين التكنوقراط على حساب أولئك الذين كانوا أكثر انخراطاً في الثورة والحركات المدنية. ويمكن تفسير ذلك جزئياً بالقدر الكبير من الدعاية التي تستهدف هذه الفئات مباشرة خلال الحملة، فضلاً عن فشل المجلس السابق في توفير الخدمات أو الفرص الكافية للفقراء.
كانت هذه التجربة الفريدة تعبيراً واضحا عن الحماس الذي يشعر به سكان سراقب إزاء قيم الثورة ورغبتهم في إدارة شؤونهم الخاصة وعدم السيطرة عليها من قبل الجماعات الإسلامية المتطرفة. و يشكّل هذا بحدّ ذاته مصدر قلق لهيئة تحرير الشام وما شابهها من الحركات التي تريد التحّكم بالناس استناداً إلى الشريعة الإسلامية. في حين تركت هيئة تحرير الشام سراقب بعد إجراء صفقة مع السكان المحليين، إلاَّ أنَّه من غير المرجح أنّ الحركة ستحتمل طويلاً موقف سراقب المحايد. ومن شأن هذا أن يعرِّض الحركة المدنية في المدينة لخطر القمع من قبل هيئة تحرير الشام في المستقبل القريب، ويؤكد الحاجة الملحة إلى الدعم الدولي للمجتمع المدني في سوريا لإبقاء هذه الحركة على قيد الحياة.