روسيا تُقحِم نفسها في مناطق خفض التصعيد

من خلال فرضِها الشروط على جماعات المعارضة المسلّحة، فإنَّ روسيا تسعى إلى تعزيز حضورها في سوريا وتحويله من موقفٍ عسكري إلى موقف الوسيط الذي يدفع باتجاه الحلّ.

وفي حين أنّ عملية التعزيز هذه قد ابتدأت مع اجتماعات أستانا بين المعارضة المسلّحة والنظام السوري، فإنَّ التوصُّل إلى الاتفاقات الثنائية يجري بشكل منفصل في أجزاء مختلفة من سوريا مما يدلّ على استعداد الروس لتغيير مسار أيّ اتفاق يجري توقيعه وذلك لصالح بديلٍ يحقق مصالحهم بدرجة أكبر من مصالحهم. ولكن في الوقت نفسه، فإن ديناميات الصراع على أرض الواقع تشكّل تحدّياً لإمكانية نجاح أيّة اتفاقات يجري التفاوض حولها.

الطريق من أستانا

بعد مرور سنةٍ تقريباً على انطلاق مباحثات أستانا، تمّ التوصّل إلى أربع اتفاقات لوقف إطلاق النار في سوريا بدعم الضامنين الروس والأتراك، ومن ثمَّ الإيرانيين في وقتٍ لاحق. وتُعرف هذه المناطق ’بمناطق خفضِ التصعيد‘ وتشمل مدينة إدلب ومحيطها الريفي، وريف حمص الشمالي، والغوطة الشرقية وأجزاءً من درعا.

إلاّ أنّ روسيا، ومنذ ذلك الوقت، اتّخذت خطوات جديدة لإنجاز اتفاقات ثنائية بشكل مباشر مع جماعات المعارضة المسلحة في نفس المناطق التي أعلنت عنها اتفاقات أستانا. وتستثني هذه الاتفاقات أية جماعة تُقادُ من الخارج، كما أنّ روسيا هي الضامن لهذه الاتفاقات.

وتشيرُ هذه التطورات إلى أنّ لدى روسيا سياسة ترمي إلى أن تكون لاعباً أُحادياً في المسألة السورية من خلال استبعادها الفاعلين الدوليين الحاليين مثل تركيا وإيران. وتُعدّ الأحداث الجارية جنوب سوريا مثالاً على هذه السياسة، فقد أبرمت روسيا اتفاقاً مع الجبهة الجنوبية لإبقاء الميليشيات المدعومة من إيران بعيداً عن درعا.  كذلك حَرص الروسُ على عدم السماح للإيرانيين بالسيطرة على أحياء حلب الشرقية أو على حيّ الوعر في مدنية حمص حيث عمد الروس إلى استبدال الإيرانيين بعناصر من الشرطة الشيشانية.

ويبدو  أنّ روسيا، من خلال ما تقوله وما تفعله أيضاً، عازمة على طرح ما يفيد بأنّها في حال لم تكن راضيةً عن بنود الاتفاق الذي ينبثق عن إطار أستانا، فسوف تلجأ إلى اتفاقات خارج هذا الإطار، وبالتالي ضمان تنفيذ أيّة نتائج ترغب بها روسيا في جميع الأحوال. لنأخذ مثلاً تضمين الغوطة الشرقية في اتفاقِ خفض التصعيد الذي أُبرِمَ في أستانا. فقد واصلت روسيا قصفها لتلك المنطقة إلى أن قام جيش الإسلام بالتوقيع على اتفاقٍ بشكل مباشر مع الروس. ثمّ تواصلت الهجمات على مناطق وجودِ فيلق الرحمن حينما اعترض هذا الفصيل على عدّة تفاصيل متعلّقة بالاتفاق، بما في ذلك الإشارة إلى القاهرة كمكانٍ للتوقيع عليه، وبالتالي رفضَ فيلق الرحمن توقيعه. إلاّ أنّه أبرَمَ بعد ذلك اتفاقاً مع الروس في 18 آب/ أغسطس في جنيف لتدخُل منطقة الغوطة الشرقية بصمت في هدنة، بالرغم من أنّ الحصار ما يزال مفروضاً عليها.

وقد جرى الأمر نفسه في ريف حمص الشمالي. فبعد الإعلان عن اتفاق خفض التصعيد في أستانا، أُلغِيَ الاتفاق وتمّ التوصل إلى اتفاقٍ جديد من خلال لقاءٍ مباشر جمع بين الروس وجيش التوحيد في القاهرة. كذلك جرى الأمر نفسه في إدلب التي شملها اتفاق أستانا، فقد صرّح الجنرال سيرغي رودسكوي، رئيس إدارة العمليات في هيئة الأركان العامة للقوات الروسية  بأنّ روسيا تسعى إلى إدخال المدينة في اتفاق ثنائي لوقف إطلاق النار.

لقد وُضِعت هذا الاتفاقات بناءً على ضمانة أحادية الجانب– وهي ضمانة روسية– دون وجود ضامن دولي من جانب المعارضة ومن غير ترسيخها في الآليات القانونية الدولية مثلَ مجلس الأمن الدولي.  وبالتالي فإنّ مصيرَ هذه الاتفاقات سيتوقف على رغبة الروس بتنفيذها. إذ أنَّ روسيا في حِلٍّ من أمرها إذا ما شاءت إلغاءها. فمِثلما تمّ تجاهل اتفاقات وقف التصعيد واستبدالها باتفاقات محلية، يُمكن كذلك إبطالُ هذه الاتفاقات الثنائية لصالح إبرام اتفاقات أخرى.

ورغم أنَّ اتفاقات أستانا قد حظِيَت مبدئياً بالدعم الدولي واعتُبِرت بمثابة خطوة على طريق تهدئة القتال الدائر في سوريا وإنهائه، فقد سُجِّلت انتهاكات كثيرة في الساعة الأولى لتنفيذها. لقد أفضى الأمر بروسيا لأن تكون الضامن لاتفاقات وقف إطلاق النار في الوقت نفسه الذي تنتهك فيه روسيا تلك الاتفاقات وتقصف المناطق المشمولة فيها. في نهاية المطاف، ينبغي فهمُ هذه الاتفاقات على أنّها تفاهماتٌ مؤقتة تقود إلى التهدئة لصالح النظام السوري المتحالف مع روسيا مقابل مكاسب غير عسكرية للمعارضة من قبيل الإفراج عن معتقَلين أو إيقاف القصف في سبيل السماح بإدخال المساعدات إلى المناطق المحاصرة.

مشاكل إضافية

كذلك تواجَهُ اتفاقات خفض التصعيد بالتنافس والصراع بين الفصائل المسلحة التي ما تزال تبحث عن موضِع قدمٍ في أي اتفاقٍ دولي مُحتَمَل وذلك لضمان أن تكون هذه الفصائل آمنةً في ظلّ الاتفاق وبغية ضمان شرعيتها من خلال التعاملات الدولية.  وبصورة مماثلة فإنّ تلك الفصائل سوف تعرقل أي اتفاق يجري التوصل إليه دونَ مشاركتها.

ذلك ما جرى بعد أن أبرم جيش التوحيد (الذي لا يوجد أيّ من قياداته في الخارج) اتفاقاً مع الروس في القاهرة بخصوص مناطق خفض التصعيد في ريف حمص الشمالي. وقد ندّد أحرار الشام وفصائل أخرى بالاتفاق محاولين نقله إلى تركيا لكي يتسنّى لهم لعب دورٍ فيه بدلاً من جيش التوحيد. واستناداً إلى أحد المشرفين على هذا الاتفاق مع الروس فإنّ أحرار الشام خصصوا مبلغ 200.000 دولار أمريكي لتقويض اتفاق القاهرة ونقله إلى تركيا. وفي حين أخفقوا في تحقيق ذلك، إلاّ أنهم نجحوا في نقلِ المحادثات من القاهرة إلى لجنةٍ شعبية داخل سوريا من أجل الاجتماع بالروس وإعادة التفاوض على بنود اتفاق القاهرة في ظل ظروف مختلفة.

هنالك أيضاً مخاوف من تدخّل الإيرانيين لتقويض الاتفاقات بهدف الحفاظ على مواقعهم ومخططاتهم لزيادة الوجود الإيراني في سوريا مما يضمن الوصول من إيران إلى لبنان عبر العراق وسوريا ويقوّي شوكة الميليشيات الإيرانية في المنطقة.  فالإيرانيون لن يقبلوا أن تأخذ روسيا مكانهم في سوريا بهذه السهولة.  وإذا ما مضت روسيا بشكلٍ جدّي في جهودها لتثبيت أطراف الصراع في سوريا، فإنّ من المتوقّع أن تهاجم الميليشيات الإيرانية مناطق المعارضة  بُغيةَ دفع هذه الأخيرة إلى الرد وتدمير وقف إطلاق النار.

حينما حظَرَ الروس على الميليشيات الشيعية دخول حي الوعر، فإنّ تلك الميليشيات بدأت بتهديد المدنيين والمقاتلين المغادرين للحيّ وترويعهم. وفيما بعد، قامت الميليشيات بزراعة الألغام على الطريق الذي سلكته الدفعة السادسة من المدنيين المغادرين لحيّ الوعر، مما تسبب في تأخير وصولهم إلى مخيم ذوغرة في جرابلس وأجبر القوات الروسية على تفكيك الألغام وتأمين الطريق. وعلى نحوٍ مماثل، عندما قامت روسيا بدمج شريط من القرى الشيعية شمال حمص لمنع شنّ أية هجمات  على المنطقة، فإنّ ذلك أثار حفيظة الميليشيات الإيرانية التي أطلقت الصواريخ وقذائف الهاون على المناطق المجاورة والخاضعة لسيطرة المعارضة.  وقد فعلت الميليشيات الإيرانية ذلك لأنّ من شأن عدم قدرتها على شنّ هجمات على المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة الحدُّ من الدور الذي يلعبه الإيرانيون في مناطق سيطرة النظام.

كذلك فإنّ المنظمات المتطرّفة تلعب دوراً سلبياً في مناطق خفض التصعيد نظراً لأنّها غالباً ما يشارُ إليها على أنها أطراف ينبغي محاربتها أو على الأقل حلُّها أو ترحيلها إلى مناطق أخرى لإزالة وجودها من مناطق خفض التصعيد.  كان أحد بنود اتفاق وقف التصعيد في الغوطة الشرقية ينصُّ على أن ينأى فيلق الرحمن بنفسه عن هيئة تحرير الشام والتي تربطه بها صلَةٌ قوية. أمّا في ريف حمص الشمالي فقد تطلّب الاتفاق إبعاد هيئة تحرير الشام دون تحديد الوجهةِ التي عليها أن تقصدها.

وبالتالي فإنَّ الفصائل التي تدعم اتفاقات خفض التصعيد تجد نفسها عالقة بين خيارَين –إمّا انتهاك الاتفاق وعدم مواجهة هيئة تحرير الشام، أو الانصياع له وبالتالي طردُ الهيئة (لأن التجربة أثبَتت أنّ هيئة تحرير الشام لن تنسحب من أي منطقة طوعاً). لذا فإنه من المتوقّع جدّيّاً أن تعمَد هيئة تحرير الشام إلى فتح معارك مع الروس والنظام بهدف وقف تنفيذ الاتفاق أو استخدامه كذريعة لمواجهة الموقعين عليه من فصائل المعارضة وتوسيع نطاق سيطرتها على مناطق أكبر.

صياغة المستقبل

تزامناً مع هذه الموجة الجديدة من الاتفاقات المحلية، يحاول الروس تحويل دورهم من دور المعتدي الذي يهدد وجود المعارضة، إلى دور الطرف الرئيسي القادر على ضمان التهدئة. ومن شأن هذا التغيّر أن يسهِم في تهميش تركيا وحجب دورها كضامنٍ للمعارضة في اتفاقات أستانا فضلاً عن تهميش إيران أيضاً. وفي حال نجاحهم في ذلك – إلى جانب ابتعاد الأمريكيين وتغيّر أولوياتهم في المنطقة – فإنّ الروس بمفردهم سوف يرسمون ملامح الحل في سوريا.