استعراض العلاقة بين تركيا وهيئة تحرير الشام

تذبذبت العلاقات بين تركيا وهيئة التحرير الشام تبعاً للتغيرات في موقف الهيئة جنباً إلى جنب مع التطورات في المنطقة وفي الميدان في سوريا. وقد اعتمدت هذه العلاقات أيضاً على موقف تركيا المتغير وتحالفاتها مع الدول الغربية وروسيا، خاصة بعد أن دعمت الولايات المتحدة القوات الكردية في قتالها ضد داعش، وهي خطوة تعتبرها تركيا بمثابة تحالف مع أعدائها.

وبدأت العلاقة بين االطرفين كعلاقة تتسم بالحذر والعدائية وتلتزم فيها تركيا بالقوانين والمعاهدات المتعلقة بمكافحة الإرهاب، بينما تعارض الهيئة (جبهة النصرة سابقاً)، التي تستوحي عقيدتها من تنظيم القاعدة نظامَ تركيا العلماني والديمقراطي.

لكن الهيئة راجعت موقفها أمام الواقع العسكري على الأرض والتصعيد المُكلف لحرب التحالف الدولي ضد داعش، ودفعت الهزائم التي لحقت بتنظيم داعش بالهيئة لتقديم تنازلات تعاقدية وعسكرية خوفاً من مواجهة مصير مماثل،

تحوَّلت العداوة بين الهيئة وتركيا إلى شكل من أشكال التنسيق بين الأقران، وقد كان هذا جلياً عندما سمحت الهيئة للدوريات التركية بدخول المناطق الخاضعة لسيطرتها وحماية نقاط المراقبة التركية في شمال سوريا على الرغم من الإعراب سابقاً عن رفضها لوجودهم.

تحوَّل هذا التنسيق الناشئ إلى تعاون واسع النطاق، حيث سهَّلت الهيئة بوجهٍ حصريّ العمليات اللوجستية والعسكرية التركية في الشمال السوري، كما منعت الهيئة أي جماعة مسلحة أخرى من المشاركة مع الأتراك إلا بوجودها كوسيط، حتى فيلق الشام الذي كان مُقرَّباً جدًا من تركيا، لا يمكنه التواصل مع الأتراك دون تصريح من الهيئة أو موافقتها.

وقد تطور هذا الوضع من خلال المصالح المشتركة بين الجانبين، إذ تحتاج الهيئة إلى غطاء سياسي على الصعيدين الإقليمي والدولي لحمايتها من الاستهداف كجماعة إرهابية، في حين أن تركيا بحاجة إلى بناء علاقات مع جماعة مسلحة ذات انضباط عسكري وتنظيمي قادرة على السيطرة على الأراضي ولا تخضع لأي قوة أجنبية.

ليس هذا هو الحال مع الفصائل المسلحة الأخرى في سوريا، التي ترتبط بدول الخليج والولايات المتحدة وروسيا، ما يعني أن تلك الفصائل خاضعة لتلك البلدان على نحوٍ يهدد الأمن القومي التركي، وظهر هذا الارتباط مع الفصائل العاملة في حمص والغوطة ودرعا، حيث أصبحت الجماعات المسلحة أدوات لممارسة الضغط على تركيا بدلاً من أن تكون أوراقاً في يد تركيا.

وفي الوقت نفسه فإن علاقة الفصائل الأخرى بأنقرة هي ذات اتجاه واحد تضطر فيها الفصائل للامتثال دون قيد أو شرط للمطالب التركية، وقد تجلّى هذا الرضوخ في المناطق التي استهدفتها عمليات درع الفرات وغصن الزيتون، حيث تدخلت تركيا في كل جانب من جوانب الإدارة والشؤون العسكرية والأمنية مُتحكِّمةً بقنوات دعم الفصائل وشراء الأسلحة والتمويل.

ومع ذلك، ستبقى العلاقة بين تركيا و الهيئة محكومة بالتطورات السياسية والعسكرية، بما في ذلك الوضع شرق نهر الفرات؛ ومسألة إدلب؛ والتقارب بين تركيا وروسيا وإيران؛ والنهج المتغير للأحزاب السياسية التركية وقيادتها في ضوء نتائج الانتخابات البلدية؛ وحسابات المصالح التركية، والتي يمكن أن تتغير وفقا لمتغيرات متعددة على الأرض.

المصالح المشتركة

طوال النزاع بين الهيئة و فصائل الثوار المتحالفة مع تركيا، مثل أحرار الشام (أكبر فصيل ثوري سوري في السابق) وغيرها من الجماعات المسلحة، شهدت أنقرة المزيد من أوجه القصور الهيكلية والتشتّت بين الفصائل التي ساندتها، وكان من شأن هذه العوامل أن تجعل هذه الفصائل غير قادرة على أن تكون حليفاً مؤثراُ على الأرض وحالت دون بنائها قاعدة اجتماعية،

وفشلت هذه الفصائل أيضاً في وقف تقدم الجهاديين، الأمر الذي دفع تركيا إلى إعادة التفكير في تحالفاتها معهم. وبعد أن رأت في الهيئة جماعةً قوية منظمة ذات تأثير على الأرض، بالإضافة إلى كونها غير مَشوبَةٍ بعلاقات مع دول ترى تركيا أنها معادية لمصالحها أو غير جادة بشأن التعاون معها؛ بدأت أنقرة في بناء علاقات أوثق مع الهيئة.

ولتركيا المصلحة في أن تكون الهيئة بمثابة أداة للضغط على النظام السوري وروسيا في المفاوضات بين أنقرة وموسكو، كما الهيئة تسيطر أيضاً على الحدود التركية، لذلك، لا يمكن تهريب الأشخاص إلى تركيا إلا بموافقتها وبطريقة منظمة، واحتجزت الهيئة العديد من الأشخاص المطلوبين لأجهزة الأمن التركية، بالإضافة إلى ملاحقة خلايا نائمة من داعش تحاول التسلل إلى تركيا. ترى أنقرة أن هذا يخدم مصالحها القومية،

علاوة على ذلك، فقد أصبح تهريب المخدارات قريباً من مستوى الصفر في ظل سيطرة الهيئة على الحدود، و كان تهريب المخدرات قد ازدهر إبّان سيطرة الفصائل الأخرى على الحدود. يُطمئِنُ جود الهيئة تركيا، ما يسمح لها بالتعامل مع كيان منظم يشبه الدولة ويساعد على حماية الحدود التركية.

بدورها ترى الهيئة أن تركيا توفر لها الشرعية والحماية في آنٍ معاً، وقد غيرت الهيئة العديد من سياساتها بناءً على طلب تركيا لتجنُّب تصنيفها كجماعة إرهابية. كما مكنها التحالف مع تركيا من تجنب الضربات الجوية التي يقوم بها التحالف الدولي الذي يريد استهداف العديد من قادتها.

ومن خلال تحالفها غير الرسمي مع تركيا، تمكنت الهيئة من الهيمنة على جميع الفصائل في إدلب بتكلفة منخفضة: من خلال كسبِ تركيا، اشترت الهيئة حيادها في القتال بين الفصائل، ما دفعها للانقضاض على الفصائل التي كانت تتمتع سابقاً بدعم تركي.

العلاقات المستقبلية

مرَّت العلاقات بين الهيئة وتركيا بمراحل مختلفة من الاتفاق والخلاف وتضارب المصالح، إذ تريد تركيا من الهيئة الانضمام إلى جماعات المعارضة السياسية التي شاركت في عملية أستانا، وحتى اللحظة تتجنب الهيئة القيام بذلك رسمياً حتى لو أنها أذعنت لهذا بحكم الواقع.

و هناك جناح في الهيئة يرى أن التقارب مع تركيا يقتل الثورة والحركة الجهادية السورية وفقاً للأدبيات الجهادية، و يرى هذا الجناح أن روسيا وتركيا متفقتان بشكل أو بآخر على الوضع في سوريا، حيث يتقاسمان المصالح التي يمكن أن تفتت الثورة السورية من أجل المساومة بينهما.

ولاتزال الهيئة حذرة في تعاملها مع تركيا، رغم اتفاقهما الضمني. تدرك الجماعة أن تركيا لا تريدل لجماعات الجهادية أن تقف على عتبات أبوابها وأن أنقرة يمكن أن تستخدمها ثم ترميها جانباً أو تدعم الفصائل الأخرى لتدميرها، و قد ساهم هذا في التقليل من حماسة الهيئة للتعامل مع تركيا.

من ناحية أخرى، ترى تركيا نفسها ملزَمة، على الأقل لبعض الوقت، بالتعامل مع الهيئة، خاصة وأن الأخيرة تحافظ على وجودها حالياً باتفاق ودعم تركيا. ويمكن أن تواجه أنقرةُ الهيئةَ بشكل غير مباشر من خلال الفصائل المتحالفة معها، لكن هذا غير مرجح في هذه المرحلة نظراً لعدم وجود خلاف أو تضارب في المصالح بين الجانبين.

ترى تركيا أن الهيئة ورقة يمكن أن تلعبها يوماً ما في حربها ضد الأكراد، وكان أمير الهيئة، أبو محمد الجولاني باركَ أي عملية تركية في المستقبل تستهدف المنطقة الواقعة شرق الفرات، و باستخدام الهيئة ضد الأكراد، يمكن أن تحقق تركيا هدفين اثنين: قتال القوات الكردية مع جماعة مسلحة منضبطة وأيديولوجية وإضعاف الهيئة من خلال خسائرها في ساحة المعركة.

كما يمكن لتركيا أيضاً استخدام الهيئة مُبرّراً للخروج من اتفاقات أستانا، وفي حال توصُّل تركيا إلى اتفاق مع روسيا، يمكن للقوات التركية أن تنسحب بسهولة من إدلب وأن تتركها للنظام السوري بحجة أن الهيئة هي منظمة إرهابية بالفعل.

يمكن أن تستخدم تركيا الهيئة ذريعةً لتبرير انسحابها من إدلب أمام الجمهور التركي والثوار السوريين الذين ما زالوا يرون أن أنقرة هي المصدر الأخير لدعمهم.

تتحدد العلاقة بين الجانبين بالعديد من المصالح بعضها متضارب وبعضها مشترك، فما زال كل طرف يعتقد أنه قد يحتاج إلى الآخر في معاركه المستقبلية، أصبحت تركيا تشكك في حلفائها التقليديين، الولايات المتحدة وأوروبا، بالإضافة إلى قلقها إزاء حليفها الجديد، روسيا. وهذا ما يزيد من حاجة أنقرة إلى العلاقات مع الهيئة التي لا تزال تسيطر على مناطق مهمة في شمال سوريا على طول الحدود التركية.