غزوان المنهلاوي
من الممكن استعادة الأمل بالإصلاح في العراق من خلال ضمان قدرة برلمانه على مساءلة الحكومة والنخب الحاكمة.
بعد ما يقرب من عشرين عاماً من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة وما أعقبه من محاولات لدَمقرطة العراق، تواجه البلاد اليوم أزمة برلمانية وسياسية. وبعد الفشل في تشكيل حكومة، قرر التيار الصدري الفائز في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2021 التخلي عن مقاعده البرلمانية بالكامل.
وقد أبرزت هذه الأزمة مسألة دور البرلمان ومدى فعاليته في النظام السياسي العراقي. فمن الناحي النظرية، لدى البرلمان وظيفتان رئيسيتان هما التشريع وضمان المساءلة من خلال مراقبة عمل الحكومة بواسطة الآليات الرقابية التي وضعها الدستور العراقي. إلّا أن الكثيرين يشككون في نجاع عمل البرلمان بكونه سلطة تشريعية، والأهم من ذلك، في قدرته على مساءلة الحكومة.
إذ تُقوّض النخبة الحاكمة في البلاد سلطة البرلمان من خلال نظام المحاصصة القائم على الحصص. وقد بدأ تطبيق هذا النظام بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2003 لتحقيق التمثيل الحكومي النسبي للجماعات العرقية والطائفية في العراق، إلّا أن الكثيرين يرون فيه الآن سبباً للعديد من مشاكل البلاد، بما في ذلك المأزق السياسي الحالي.
الرقابة البرلمانية وحجم الفساد الحكومي
يعاني العراق من انعدام واضح للمساءلة السياسية، وأدى التدخل السياسي إلى الحد من الرقابة البرلمانية، كما أن فرادى أعضاء البرلمان غير قادرين على التصدي لحجم الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية. وتُبرِز الإحصاءات الواردة من المؤسسات الرقابية الاتحادية عجز البرلمان عن تحقيق المساءلة.
وعلى الرغم من انتشار الفساد، استجوب البرلمان 14 مسؤولًا على مدار الفترات البرلمانية الثلاث الأخيرة (2010-21)، لكنه لم يتمكن من التصويت بحجب الثقة سوى عن ثلاثة مسؤولين. وفي الفترة البرلمانية 2014-2018، أجرى البرلمان 10 استجوابات أفضت إلى تصويتين بدوافع سياسية لحجب الثقة عن وزير الدفاع خالد العبيدي ووزير المالية هوشيار زيباري. وفي عام 2017، نجح البرلمان في إقالة المدير التنفيذي لهيئة الإعلام والاتصالات صفاء الدين ربيع بعد استجوابه غيابياً. وشهدت الدورة البرلمانية لفترة 2018-2021 استجواباً واحداً فقط أفضى إلى تصويت بحجب الثقة عن علي الخويلدي المدير التنفيذي لهيئة الاتصالات والإعلام.
وتظل هذه الأرقام أقل من مستوى الرقابة الذي يجب أن يحققه البرلمان العراقي، لا سيما عند مقارنتها بحجم فساد الدولة والموارد الحكومية التي أُهدِرت مما أثّر تأثيراً كبيراً على توفير الخدمات العامة. كما استُخدمت الاستجوابات البرلمانية للابتزاز السياسي ولتحقيق مكاسب سياسية. ولم يجر تنفيذ العديد من طلبات الاستجواب المقترحة، إما لأن رئيس المجلس لم يكن مقتنعاً بتمريرها أو بسبب انسحاب أعضاء البرلمان الذين وقّعوا على طلبات الاستجواب لأول مرة.
الوظائف المختلفة للبرلمان
ومع وصول الجهود المبذولة لتشكيل حكومة جديدة إلى طريق مسدود، هيمنت بعض الأعراف على النظام السياسي واختزلت دور البرلمان إلى وظائف مثل إجراء تصويت الثقة في الحكومة في بداية كل ولاية وإقرار الموازنة العامة الاتحادية السنوية على حساب العديد من الوظائف الدستورية للبرلمان.
وفي الأصل يطغى التعقيد والاستقطاب السياسي على هاتين الوظيفتين بسبب المحاصصة، بينما ظهرت مسائل أخرى لتزيد الطين بِلة وأهمها أغلبية الثلثين اللازمة لانتخاب الرئيس. إلّا أنَّ عملية تشكيل الحكومة التي تلي انتخاب الرئيس تظل الأولوية القصوى لجميع الأطراف التي تناضل من أجل السلطة. وقد أظهرت التجربة أن السلطة التنفيذية، وليس السلطة التشريعية، هي الفاعل الرئيسي في النظام العراقي.
عندما قرر زعيم الكتلة الصدرية مقتدى الصدر التخلي عن 73 مقعداً في البرلمان بسبب الانسداد الحاصل في عملية تشكيل الحكومة، كان هذا مثالاً واضحاً على أن الهدف الرئيسي للأحزاب السياسية العراقية هو الحصول على حصة من سلطة الحكومة وليس ضمان اضطلاع البرلمان بوظائفه الرقابية والتشريعية.
استمرار هيمنة نظام المحاصصة
يرتبط تشكيل الحكومة بتشكيل ما يُعرف باسم الكتلة الأكبر في البرلمان – وهو مصطلح يخضع لتفسيرات وآراء متعددة. ومع ذلك، فإن كلّ تشكيل حكومة يأتي نتيجة لعملية شاقة يتفق خلالها جميع الفائزين بالمقاعد البرلمانية – الشيعة والسنة والأكراد – على تشكيل حكومة توافقية يشارك فيها الجميع. والحكومة الناتجة هي حكومة محاصصة يجري فيها تقاسم الفوائد بين الفائزين في الانتخابات وتخصيص الوزارات بما يتماشى مع نظام قائم على النقاط يحدده عدد المقاعد في البرلمان. وتمتد ممارسة المحاصصة أيضاً إلى توزيع اللجان البرلمانية التي تتمع بدورها بسلطات رقابية على الوزارات والهيئات المستقلة والكيانات غير الحكومية.
وحين يمكن التغلب على الخلافات أثناء عملية تشكيل الحكومة عن طريق توافقات بشأن تقاسم المكاسب، إلاَّ أن هذا لا ينجح سوى على المدى القصير، فمن عادة الائتلافات التي تتشكل خلال عملية تشكيل الحكومة أن تضعف وتنهار بسهولة لأنها تُبنى فقط لغرض تشكيل الحكومة واكتساب النفوذ دون اتفاق استراتيجي أو تقارب أيديولوجي.
يمكن لنموذج ديمقراطي جديد أن يساعد في استعادة الأمل
بعد نحو من 20 عاماً من تغيير النظام لا يزال العراق يكافح من أجل انتقاله إلى الديمقراطية. ويؤثر الانقسام والتجزؤ داخل البرلمان العراقي سلباً على وظيفته الرقابية. فعلى سبيل المثال، يتطلب التصويت بحجب الثقة عن أحد الوزراء 50 في المائة من الأصوات بالإضافة إلى صوت واحد، وهو ما يصعب تحقيقه بالنسبة لأعضاء البرلمان المستقلين أو بالنسبة للأحزاب الجديدة التي دخلت البرلمان بعد حركة الاحتجاج الأخيرة. علاوة على ذلك، يجب على كل من يشكل الحكومة أولاً تأمين ثلثي الأصوات البرلمانية لانتخاب الرئيس ومن ثمّ 50 في المائة من الأصوات بالإضافة إلى صوت واحد لتشكيل الحكومة.
ويزيد هذا النظام من تعقيد إمكانية اضطلاع البرلمان بأي وظيفة رقابة حقيقية، إذ يرتبط ما لا يقل عن ثلثي أعضاء البرلمان بالنخبة الحاكمة التي تستفيد من المحاصصة، وبالتالي من غير المرجح أن يقوم هؤلاء بالتدقيق في عمل المنظومة وتحدّيها.
وفي ضوء ما سبق، يجب على النواب المستقلين الجدد وغيرهم من النواب المناصرين للإصلاح إيجاد طريقة للعمل من خلال الروتين الإداري البرلماني لضمان دور إشرافي برلماني فعال. ولكي ينجحوا فإنهم يحتاجون إلى الدعم، ليس في القدرات ولكن في التواصل مع بعضهم البعض، فالإصلاحيون في جميع أنحاء العراق يشكلون أقلية متباعدة. ويمكن لتحقيق الرقابة البرلمانية أن يساعد على وضع نموذج عمل جديد وأن يصوِّب تركيز عمل البرلمان، مما يبعث أملاً جديداً في إمكانية إصلاح النظام من الداخل.
وهناك ثلاث طرق ممكنة لتحقيق ذلك؛ تكمن أولى الطرق في معالجة مسألة صلاحية رئيس البرلمان في تحديد التصويت من خلال العد اليدوي، وهي ظاهرة تعرف باسم "تمت الموافقة"، وذلك نسبة إلى العبارة التي يستخدمها رئيس مجلس النواب لتمرير ما يرغب فيه من اقتراحات. ويجب على النواب المطالبة بالشفافية في عمليات التصويت من خلال تبني نظام إلكتروني ومشاركة أسماء النواب الذين يصوّتون أو يمتنعون عن التصويت وإتاحة هذه المعلومات لوسائل الإعلام والمجتمع المدني والجمهور على الموقع الإلكتروني للبرلمان العراقي.
ويتمثل الخيار الثاني في تشكيل ائتلاف من 25 نائباً يتفقون في ما بينهم على أن يتحمل كل واحد منهم مسؤولية جمع المعلومات عن عمل وزارة معينة والنظر في أمور مثل طرح العطاءات والتعيينات والاستثمارات. ويمكن أن يتبع ذلك استجواب الوزراء والمحافظين وغيرهم من المسؤولين الذين يتبين تقصيرهم أو تحيط بهم شبهات فساد.
أما الطريق الثالث الممكن فهو من خلال ربط وسائل الإعلام والمجتمع المدني وحشدهم معاً للضغط على البرلمان لمنع النواب الذين يوقعون على اقتراح للاستجواب من سحب تواقيعهم، وهو ما قد يساعد في معالجة مسألة الابتزاز في مثل هذه الحالات.
ويتطلب تنفيذ أيٍّ من هذه الحلول ائتلافا يجمع بين نواب مستقلين ومؤيدين للإصلاح من أحزاب مثل امتداد وإشراقة كانون والجيل الجديد ونواب من أحزاب أخرى مؤيدة للإصلاح، فضلاً عن حشد وسائل الإعلام والمجتمع المدني للضغط من أجل هذه التغييرات. ومن شأن هذا أن يساعد في خلق نموذج ديمقراطي جديد وتأسيس ثقافة تعزز الرقابة البرلمانية في الوقت الذي تعمل فيه على حشد الدعم الشعبي للإصلاح.
إن النظام السياسي في العراق يعاني من مشاكل معقدة ومترابطة، ويجب أن تكون محاولات الإصلاح تدريجية وأن تشمل أصحاب المصلحة مثل النواب المؤيدين للإصلاح والمجتمع المدني ووسائل الإعلام للمساعدة في تحقيق التحول الديمقراطي. ولابد أن يستند الترويج للديمقراطية إلى النجاحات السابقة ليُظهِر للنواب أنَّ من الممكن تحقيق اختراقات ــ حتى في البيئة السياسية المعقدة للبرلمان العراقي ــ للمساعدة على استعادة الأمل في إمكانية الإصلاح.
هذا المقال جزء من سلسلة يقدمها تشاثام هاوس لطرح رؤى متعمقة حول الآليات الداخلية للحكومة العراقية، وتقييم ما تكشفه التطورات الأخيرة – العامة وخلف الكواليس – حول الآفاق المستقبلية لدولة عراقية مستقرة وخاضعة للمساءلة ومزدهرة.