تُشكّل البنية التحتية السيئة وكذلك الإدارة الأسوأ جانباً أساسياً من قصة الرعاية الصحية في العراق، غيرَ أنّ القضية المعقدة لحركة الأدوية وتوريدها لا تقلّ أهميةً.
في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، صرّح نقيب اطباء العراق جاسم العزاوي بأن فريقه يحرز تقدماً بشأن رقمَنَة الوصفات الطبية. وقد يبدو هذا التصريح عديم الأهمية بنحو يدعو إلى الاستغراب بالنظر إلى التحديات العديدة التي تواجه نظام الرعاية الصحية في العراق. لكن الوصفات الطبية المكتوبة بخط اليد كانت لسنوات نقطة خلاف في البلاد.
يستخدم بعض الأطباء أنظمة ترميز بخط اليد عند كتابة الوصفات الدوائية، وتكون النصوص غير مقروءة للجميع باستثناء الصيادلة الذين عادةً ما تجمعهم شراكة بالأطباء الذين يكتبون الوصفات. وتُسَلَّم الوصفات الطبية باليد ويتمُّ توجيه المرضى إلى الصيدلية التي اختارها الطبيب، حيث يوجد الصيدلي الوحيد القادر على تفسير الرمز المكتوب.
يتفاوض هؤلاء الأطباء الذين يطلق عليهم البعض في القطاع الصحي اسم "الأطباء التجار" من أجل حوافز لبيع عقاقير معينة يروّج لها مندوبي الأدوية، مثل نسبة نقدية مقابل المبيعات. وغالباً ما تتفاوت أسعار الدواء عبر الصيدليات المختلفة، وأحياناً ما يكون هذا التفاوت صارخاً، مما يوفر فرصة مربحة للأطباء والصيادلة لزيادة التكلفة.
ولكن تلك القضايا تتجاوز تفاوت التسعير، حيث أن حركة الأدوية إلى داخل العراق وعَبرَ جميع أنحائه تربط بين مجموعة متنوعة من النخبة الحاكمة ورجال الأعمال والجماعات المسلحة من مختلف الأطياف السياسية. ووفقاً لأحد المسؤولين فإن قيمة تجارة الأدوية العابرة للحدود الوطنية قد تصل إلى 3 مليار دولار سنوياً، ولا يذهب منها سوى القليل إلى الخزائن الحكومية.
ورغم أن قدراً كبيراً من التركيز على التهريب والصراع في العراق كان يتمحور حول الأسلحة والنفط والغاز والمخدرات غير المشروعة، فإن تجارة الأدوية قد تكون مربحة ويترتب عنها تبعات كبيرة بنفس القدر ـ فهي تأتي على حساب الصحة العامة. إن الجانب التجاري في قطاع الصحة حلقة ربط رئيسية في سلسلة صراع لا تتألف ببساطة من رجال بأسلحة ودوافع. تشكل المستحضرات الدوائية جزءاً حيوياً من حكاية الصراع في العراق وخاصة بسبب الأرباح الطائلة من استيرادها وبيعها، إذ تساعد أرباحها في تمويل المتنافسين السياسيين في هذا الصراع وتمويل أجنداتهم.
استيراد العلاج
يُستورَد معظم الأدوية في العراق من البلدان المجاورة وهي إيران والأردن وتركيا. فيما يُجلَبُ الجزء الآخر من الغرب والشرق، من الولايات المتحدة وفرنسا والهند وبنغلاديش. وإن نقاط المنشأ لا تتطابق فقط مع أنواع الشركات التي تصنع وتبيع أدوية معينة، حيث يمكن أن يؤثر مكان تصنيع الدواء أيضاً على الطريقة التي تدخل بها منتجات معيّنة إلى العراق وسوقه الطبي.
فالاستيراد والبيع القانونيين للأدوية التي تنتجها شركات الأدوية المتعددة الجنسيات ليسا مُحَّصنَين ضد الممارسات غير الرسمية. وعلى سبيل المثال، يقوم ممثلو هذه الشركات بجلب المنتجات إلى العراق عن طريق الجمارك والنقاط الحدودية الرسمية مثل ميناء أم قصر جنوب البصرة. ولكن لتجنب ضرائب الاستيراد، فإنهم يسددون عمولات غير رسمية لموظفي الجمارك المرتبطين بالأحزاب الحاكمة. وقال مالك إحدى شركات الأدوية: "أخبرني أحد الوكلاء ذات مرة من أي رصيف يجب أن أُدخِل الشحنات في الميناء من أجل تجنّب الرسوم الجمركية ". وهذا أمر شائع وهو يبيّن كيف تستضيف النقاط الحدودية التي تسيطر عليها الحكومة ممارسات التهريب التي يِجيزها مسؤولون في الدولة على المستويين المحلي والوطني.
وفي الشمال، وجدت حكومة إقليم كردستان مؤخراً أن سعر الدواء الذي توفره إحدى الشركات قد تقلَّب بنسبة ١٥٠٠ في المائة. وزعم مسؤول من حكومة إقليم كردستان شارك هذه النتائج أن هناك صِلاتٍ بين اللوائح الحكومية وتسعير الأدوية، وأصرَّ على أن عدم فرض السلطات العامة ضرائب رسمية هو جزء من المشكلة. ولكن ما لايقل أهمية هنا أيضاً التباينات في الضرائب غير الرسمية ــ أي الرشاوى ــ التي يتم جمعها على طول الطريق التجاري، وعلى وجه التحديد في النقاط الحدودية المختلفة حيث تدخل السلع إلى كردستان العراق.
تهريب النسخ المقلَّدة
تختفي هذه الرسوم تقريباً عندما يتم تهريب الأدوية إلى العراق، على سبيل المثال من خلال المعابر الحدودية غير الرسمية التي لا تخضع لسيطرة الحكومة ولكن تنشئها وتُديرها جماعات مرتبطة بالأحزاب السياسية الحاكمة. وتقع نقاط الدخول غير الرسمية هذه في الغالب على طول الحدود البرية للعراق مع إيران وتركيا، ووفقاً للذين تمت مقابلتهم، فإن حصة واردات الأدوية التي تمر عبرها تنافس الواردات التي تمر عبر المعابر الحدودية الرسمية.
وغالباً ما تدخل العقاقير المكافِئة – الأدوية التي يُزعم أنها لا تختلف في التركيب الكيميائي عن العلامات التجارية المعروفة – إلى العراق عبر المعابر الحدودية غير الرسمية. لكن ممثلي شركات الأدوية الذين تحدثنا معهم أصروا على أن العديد من هذه الأدوية المهربة مزيَّف ومقلَّد. فالتركيب الكيميائي المتغير يجعل هذه الأدوية أقل فعالية، في حين أن "تزييفها" يجعلها في متناول اليد أكثر من الأصل.
إن العقاقير التي تحمل أسماء العلامات التجارية ــ حتى العقاقير المكافِئة التي تم تجريبها واختبارها والموافقة عليها ــ قد تكون باهظة التكاليف في بلد ما فتِئت حالة عدم المساواة في الثروة تزداد فيه. ويضطر الأشخاص ذوو الدخل المنخفض أو الذين ليس لديهم دخل على الإطلاق إلى استخدام أرخص البدائل، على الرغم من علمهم بأن هذه الأدوية ذات نوعية رديئة أيضاً. وتصبح هذه المحددات الاجتماعية للصحة أكثر وضوحاً داخل هذا الاقتصاد السياسي لتجارة الأدوية العراقية، والطرق التي تمر بها الأدوية عبر الأراضي العراقية ذات السيادة ظاهرياً.
ويبدو أن انتشار المستحضرات الدوائية المنخفضة الجودة والمزيفة يثير قلقاً متزايداً لدى السلطات العراقية. في عام 2020، عُثِر على ما يصل إلى 50 طناً من العقاقير المضبوطة في ميناء أم قصر غير الصالحة للاستهلاك البشري. ويوحي احتمال حدوث هذه المصادرات في معبر حدودي رسمي بأن الانتقادات الشاملة الموجهة إلى موظفي الجمارك والحدود العراقيين ليست في محلها. لكن في حقيقة الأمر، تعتمد طريقة وتوقيت إنفاذ سيطرة الحكومة على الحدود على مقدار الأموال المعرضة للخطر وإلى جيوب من ستذهب.
الاستنتاجات السياسية
تستفيد مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة المختلفة من تجارة الأدوية في العراق وعبره، مثل الشركات المستورِدة وحرس الحدود وعناصر الجمارك والموزعين الوطنيين والناقلين والأطباء التجار والصيادلة. ولكن الأهم من ذلك هو ما تقوم به الأحزاب السياسية والجماعات المسلحة الحاكمة، أولئك الذين يسهلون توفير الوثائق والحماية اللازمة التي تساعد على ضمان عمليات نقل الأدوية.
وصادر جهاز الأمن الوطني العراقي في الصيف الماضي شحنة غير قانونية من الأدوية المخصصة لمرضى كوفيد-19 في مطار البصرة الدولي. وأفيد بأن المستوردين لم يحصلوا على الموافقات المطلوبة من وزارة الصحة. ولكن مثل هذه الموافقات كثيراً ما يتم تجاوزها من قِبَل مستوردين أكثر ارتباطاً بالدوائر السياسية. وتدل هذه الحادثة على أن قدرة الحكومة على الإنفاذ غالباً ما تقتصر على الحالات التي تكون فيها الحماية السياسية للتجار غائبة أو غير كافية.
وهذه الشبكة المعقدة من الجهات الفاعلة وخطوط التجارة الرسمية وغير الرسمية غير الواضحة تعقّد التدخلات السياساتية الرامية إلى وضع حد لتهريب الأدوية. ولا يمكن أن ينحصر الحل عند المعابر الحدودية. وستظل جهود الإصلاح المجزأة، من رقمنة الوصفات الطبية إلى استهداف المهربين، قاصرة دائماً. وبدلاً من ذلك، يجب على صانعي السياسات بذل المزيد من الجهد لربط سلسلة توريد النزاع بأكملها. فالفساد الذي تقوم عليه هذه التجارة يجري بمباركة سياسية من قِبَل العديد من نفس الأحزاب التي تتمتع بعلاقات طيبة مع صناع القرار السياسي الغربيين الذين يزعمون أنهم يسعون إلى الإصلاح في العراق.
إن توريد الأدوية وحركتها مسألتان لهما عواقب وخيمة على الحياة اليومية في جميع أنحاء العراق. ومع ذلك، عادةً ما تطغى على هذه المأساة مآسٍ أخرى من سوء الرعاية – مثل الحريقين الفتَّاكَين في المستشفيات في عام 2021. تُشكّل البنية التحتية السيئة وكذلك الإدارة الأسوأ جانباً أساسياً في مسألة الرعاية الصحية في العراق. ولكن الشؤون الدوائية اليومية أيضاً تشكل أهمية مركزية بالنسبة لتجارة المستحضرات الدوائية والاقتصاد السياسي في البلاد.
ومن المهم أن نلاحظ أن هذه القصة لا تقتصر على العراق وحده، ولا تحدُّها حدوده المليئة بالثغرات. إن استيراد المستحضرات الدوائية المربحة بالكامل تقريباً من البلدان المجاورة هو دافع للنظر في كيفية تشابك حركة الأدوية وغيرها من السلع التي تبدو عادية في جميع أنحاء العراق مع سلسلة توريد صراع إقليمية لا تحدّها خطوط مرسومة على الخريطة مثلما هو الحال عبر سوريا ولبنان أيضاً.
كُتِب هذا المقال بدعم من مشروع أدلة وسياسات واتجاهات النزاع عبر الحدود (XCEPT)، بتمويل من المعونة المقدَّمة من المملكة المتحدة/حكومة المملكة المتحدة. الآراء المعرب عنها لا تعكس بالضرورة السياسات الرسمية لحكومة المملكة المتحدة.