التغيرات الحاصلة في المناطق التي تسيطر عليها الأطراف المتصارعة تُبدّل تصوّرات المدنيين عن نتائج الحرب في سوريا تبدُّلاً جوهريّاً بعد سبع سنوات من القتال.
نزح الملايين من السوريين عن ديارهم منذ بدأ النظام بحملاته العسكرية ضد مدنهم. وقد كانت سيطرة النظام السوري على منطقة معينة تُخلّف موجات متتالية من النزوح المرتبطة ببدء هذه العمليات العسكرية وبنهايتها على حدّ سواء. وحتى وقت قريب، كانت معظم هذه الموجات تتحرك في اتجاه مناطق المعارضة، نظراً لرفض المُهجَّرين البقاء في المناطق التي يسيطر عليها النظام.
كانت هناك عدة أسباب لهذا، أهمها التفاؤل بشأن نصر وشيكٍ للمعارضة، سواء سياسيا أو عسكرياً، فضلاً عن الرغبة في تجنُّب التعرض للاحتجاز والاستجواب والسجن من جانب قوات النظام التي كانت تشنّ حملات واسعة من الاعتقالات العشوائية في المناطق التي تسيطر عليها. وإلى جانب ذلك، كانت الظروف المعيشية في مناطق المعارضة أفضل من تلك التي في مناطق النظام، لا سيّما في شمال سوريا، حيث كانت جميع المحاصيل متوفرة، بالإضافة إلى التجارة عبر الحدود مع تركيا.
ومع مرور الوقت تغيرت هذه الديناميّة، ولاحظ المراقبون أن معظم النازحين داخلياً بدأوا يتجهون نحو المناطق التي يسيطر عليها النظام، بينما فضَّل آخرون البقاء في منازلهم التي باتت تحت سيطرة النظام أو روسيا. وقد تجلّى هذا التحوّل بعد خسائر المعارضة في شرق حلب، التي يقطنها 250 ألف شخص، وبعد انتهاء المفاوضات بين المعارضة والروس باتفاق أفضى إلى فتح ممرات آمنة لمغادرة المدينة. بعد هذه الصفقة، توجَّه نحو 40 ألف شخص إلى مناطق المعارضة، في حين قصد قرابة 200 ألف مناطق النظام، وذلك وفقاً للمنظمات المحلية وشخصيات الأمم المتحدة يمكن الاستناد إليها.
ومنذ دخولها العسكري المباشر إلى سوريا، عملت روسيا على إنشاء مركز المصالحة الوطنية بهدف واضح هو التوفيق بين المدنيين والحكومة السورية. ومع ذلك، كان الدور الرئيسي للمركز هو دفع المدن المحاصرة إلى الاستسلام وإدخال الروس والنظام إليها تحت يافطةِ “المصالحة الوطنية”.
واليوم، بعد سبع سنوات من القتال، فإن التغيرات الحاصلة في المناطق التي تسيطر عليها الأطراف المتصارعة تُبدّل تصوّرات المدنيين عن نتائج الحرب في سوريا تبدُّلاً جوهريّاً. فقد كان إحساسهم السابق بالأمان في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة قائماً على فكرة أن هذه المناطق في مأمَن وأن النظام لن يستردها. إلاَّ أنَّ هذا الشعور تحول إلى الخوف مع تقدم النظام نحو مناطق المعارضة التي راحت تتساقط الواحدة تلو الأخرى. وأدت خسائر المناطق المعارضة في العديد من المدن، مثل حمص وحلب وغيرها، إلى نشوء تصورات لدى المدنيين بأن جميع مناطق المعارضة ستنهار عاجلاً أم آجلاً. لماذا نذهب إلى هناك ونواجه التهجير مرة أخرى في المستقبل؟
وعلاوة على ذلك، فإن سيطرة المتطرفين على أجزاء كبيرة من هذه المناطق وعملياتهم العسكرية ضد الفصائل المعتدلة، وكذلك الاقتتال الداخلي بين المعتدلين أنفسهم، قد دفع المدنيين إلى الخوف على منازلهم واستقرارهم في هذه المناطق، إذ يدل هذا الاقتتال الداخلي على أن هدف هذه الفصائل لم يعد حماية الناس والدفاع عن حريتهم، مثلما كانت شعاراتهم التأسيسية، بل أصبح الهدف يتمثل في السيطرة وتوسيع النفوذ وتحقيق الأهداف الشخصية للقادة.
ففي شمال سوريا، اندلع القتال بين أحرار الشام وجبهة النصرة، مما أدى إلى مقتل العديد من المدنيين وإبعاد المدنيين عن الشوارع لأسابيع. وأدى الاقتتال الداخلي بين فيلق الرحمن وجيش الإسلام في الغوطة إلى مقتل ما لا يقل عن 700 شخص من المدنيين والعسكريين على حد سواء. وهكذا فإن إحساس المدنيين بالأمان بات أقل في المناطق التي تسيطر عليها هذه الفصائل.
وناهيك عن ذلك، فإن النزوح المادي لأعداد غفيرة من الناس إلى مناطق ذات مساحة محدودة، والقدرة على استيعابها يشكل عاملاً رئيسياً يزيد من ارتفاع تكاليف المعيشة في مناطق المعارضة. فقد يصل إيجار المنزل العادي إلى ما لا يقل عن 150 دولاراً في الشهر، بينما ارتفع الإيجار إلى 300 دولار في المناطق البعيدة عن التفجيرات وبالقرب من الحدود التركية. وعلى النقيض من ذلك، يبلغ متوسط الدخل في سوريا حوالي 50 دولاراً، وهو ما يمثِّل عقبةً أمام من يرغبون في الذهاب إلى هذه المناطق. في الوقت نفسه، ظلت إيجارات المنازل في مناطق النظام معقولة نسبياً، على الرغم من ارتفاع الأسعار في جميع المناطق، بمتوسط قدره 100 دولار.
وقد كان معظم النزوح إلى مخيمات اللاجئين المصممة لاحتواء المدنيين في منطقة صغيرة، وسرعان ما انتشرت السمعة السيئة لتلك المخيمات المزدحمة. وفي أوضاع كهذه، سرعان ما انتشرت حالات الاعتداء والسرقة وزواج الأطفال. وقد حفز ذلك العديد من المدنيين على مغادرة المخيمات والعودة إلى منازلهم في مناطق يسيطر عليها النظام، مثلما جرى مع الأشخاص الذين نزحوا سابقاً من منطقة الوعر في حمص.
ولعل الأهم من كل ما سبق هو الإحساس النفسي بالغمِّ وسحب الدعم السياسي والعسكري من المعارضة، وتركها لمواجهة الروس والنظام السوري بمفردها. فقد أوجد هذا حالة من الإحباط والخسارة، لا سيّما مع تقدم النظام والروس في مناطق المعارضة التي تسقط دون قتال، مثل الغوطة الشرقية، التي اُطلِقت عليها تسمية “معقل الثوار” لمدة طويلة.
وتضافرت جميع هذه العوامل في تغيير خيارات النازحين وتفضيلهم الابتعاد عن مناطق المعارضة نحو مناطق النظام. إذ يتخذ البعض قرارهم واضعين المستقبل نُصبَ أعيُنهم مفضِّلين أن يدرس أطفالهم في مدارس معترف بها بعد سبع سنوات من الاضطراب الذي لحِق بدراستهم ودون تحقيق انتصار عسكري أو سياسي على النظام.
إن استمرار الوضع الراهن في مناطق المعارضة، إلى جانب ضعف الخدمات والارتفاع المتواصل للأسعار، سيدفع المزيد من السكان إلى تركها والتوجه نحو مناطق النظام. وسوف يتحمل من يُقدِم على ذلك بعض المخاطر، إلاَّ أن هناك أيضاً خطر في البقاء في مناطق المعارضة، حيث يقطن فيها نحو ستة ملايين شخص وفقاً لما تشير إليه تقديرات غير رسمية.