الأكراد أمام عدد قليل من الخيارات بعد الانسحاب الأميركي

لم يكن لدى قادة قوات سوريا الديمقراطية أيَّ أوهام في أنَّ تحالفهم مع الولايات المتحدة ليس سوى تحالف مصلحة، وحتى في الوقت الذي كانت فيه قوات سوريا الديمقراطية تستعيد الأراضي وتُسيطِرُ عليها في شمالي شرق سوريا، فقد كرَّر قادتها علناً وبصورة دائمة أن الحل يكمن في الحوار مع الحكومة وأنهم مستعدون للتخلي عن القتال، طالما أنه لن تكون هناك عودة إلى الوضع السياسي والأمني الذي سادَ قبل عام 2011.

في الوقت نفسه، كان من المفترض أن تُستخدم المكاسب السياسية والعسكرية التي حققتها قسد كوسيلة ضغط مع النظام. كان ذلك واضحاً عندما ذهب وفد من المجلس الديمقراطي السوري التابع لقوات سوريا الديمقراطية إلى دمشق للتفاوض مع مدير الأمن القومي اللواء علي مملوك في آب/أغسطس 2018. وكان من المُسَلَّمِ به أنَّ أي محادثات مع الإدارة الذاتية للحكم في شمال شرق سوريا يجب أن تكون في إطار المادة 107 من قانون الإدارة المحلية، التي تناقش طبيعة العلاقة بين مركز البلاد وأطرافها.

فلماذا سلَّمت قوات سوريا الديمقراطية كل أوراقها التفاوضية بعد العملية العسكرية التركية في شمال شرق سوريا إلى روسيا والنظام السوري رغم علمها منذ البداية أن تحالفها مع الولايات المتحدة كان مؤقتاً؟ وما الذي حدث لجيشها الذي يضم أكثر من 70.000 مقاتل يتمتعون بقدرات هائلة على شكل أسلحة أميركية وحقول نفطية ضخمة تشكل أكبر مصدر للدخل في سوريا؟

لم يكن قرار أمريكا المفاجئ بالانسحاب، وما أحدَثَه من فراغٍ دَفَع تركيا إلى تنفيذ عملية "نبع السلام"، لم يكن في حساب الأكراد. ففي مقابلة مع صحيفة عكاظ السعودية في 14 أيلول/سبتمبر 2018، تحدَّث قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي عن وجود علاقة ممتازة مع الولايات المتحدة واستراتيجية للعمل في عام 2019، وكان هناك حديث حول اتفاق أمني بين قوات سوريا الديمقراطية والقيادة العسكرية الأميركية في سوريا والعراق للحماية المتبادلة خلال السنوات العشر القادمة، إلاَّ أن هذا قد ذهب أدراج الرياح، لذا فإن الشعور الكردي بالخيانة شعور حقيقي.

ولكن حتى الآن، لا يمكن لأحد التكهُّن بمصير قوات سوريا الديمقراطية، وعلى الرغم من بعض العقبات الداخلية، فقد توصَّل قادة قوات سوريا الديمقراطية إلى اتفاقية أمنية مع النظام السوري وروسيا، إلاَّ أن الملحق السياسي للاتفاق لا يزال غير واضح. إلاَّ أنَّ معارضة هذه الخطوة داخل الأوساط الكردية والعربية في شمال شرق سوريا لا تبشِّر بالخير بالنسبة لقوات سوريا الديمقراطية التي يتمثل خيارها الأساسي، وربما الوحيد، لوقف الهجمات التركية على المناطق الكردية، في العمل مع دمشق.

في ذروة قوة قوات سوريا الديمقراطية والدعم الأميركي لها، رفَضَ النظام السوري منح الأكراد أي امتيازات سياسية، وبدلاً من ذلك، اعتَبَرَهُم ميليشيات مارقة ومتعاونين مع الأميركيين. كما لم يقبل الأسد أبداً انضمام العناصر الكردية إلى صفوف جيشه والإخلال بتركيبته القومية والإيديولوجية. كان هناك حديث عن استيعاب بعض من قوات سوريا الديمقراطية في الفيلق الخامس الخاضع للإشراف الروسي، إلاَّ أن الأسد اختار عدم القيام بذلك، حتى مع الفصائل التي كانت تؤيد المصالحة مع النظام.

إذاً ما الذي يعنيه هذا بالنسبة إلى القوات التي على شفا الحرب مع تركيا؟ يعتقد الأسد الآن أنَّ في جُعبته الحل لمأزق الأكراد في سوريا وأن شروطه ستكون لها الأولوية في أي تسوية، لأن البديل الوحيد لقوات سوريا الديمقراطية هو مواجهة تركيا بمفردها. ومع ذلك فهو يذعن الآن للضغط من قِبَل موسكو بأن يبقى صامتاً حتى يتم التوصل إلى تسوية مُرضية للأتراك والروس، وهو ما سيوفر القليل من الفوائد للأكراد بخلافِ دعم السِّلم الأهلي.

كان من الممكن مناقشة الحكم الذاتي مع الاحتفاظ بالقوة العسكرية في ظل ظروف معينة. ومع ذلك، أجبر انسحاب أميركا قوات سوريا الديمقراطية على الاستدارة بسرعة إلى النظام ومن ثم روسيا بحثاً عن الحماية. وفي واقع الأمر ليس أمام قوات سوريا الديمقراطية أي فرصة لإملاء شروطها الخاصة كما بدا أنها عاجزة عن إحباط العدوان التركي.

يقول اللواء مظلوم عبدي إنَّ هدفه هو حماية الأكراد من الحرب مع تركيا، في إشارة إلى استعداده للتنازل عن النفوذ والسلطة لمصلحة شعبه. لا شكَّ في أنَّ قبول عبدي بوجود قوات النظام السوري والدوريات العسكرية الروسية، الذين تخلُّوا عن الأكراد في عفرين، كان مُرَّاً كالعلقم. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة تركت الأكراد بدون خيار يذكر.

بذلك يكون الأكراد الآن قد تعرَّضوا لثلاث نكسات كبيرة لطموحاتهم السياسية في الشرق الأوسط خلال وقت قصير. جاءت أولى النكسات عندما استولت قوات الحشد الشعبي على كركوك وسنجار وبعشيقة وخانقين في تشرين الأول/أكتوبر 2017 بعد استفتاء فاشل للاستقلال في كردستان العراق. أمّا الانتكاسة الثانية فهي استيلاء الجيش التركي والفصائل المسلحة على عفرين في شباط/فبراير 2018، وبعد ذلك جاءت الانتكاسة الثالثة التي تمثَّلَت في الهجوم التركي الشهرَ الماضي.

من شأن هذا أن يدفع الشعب الكردي إلى حافة الانهيار السياسي، ولا يرغب الجنرال عبدي في أن يسجّل التاريخ خسارة كردية هائلة في عهده، لذا فإنَّ هدفه في سوريا، في الوقت الراهن على الأقل، هو تجنُّب هزيمة كبرى وإبقاء القضية الكردية على قيد الحياة.