احتجاج العراقيين أحدُ أعراض الفساد المتأصل

أدَّت حرائق المستشفيات وانقطاعات الكهرباء إلى احتجاجات غاضبة، ويرى كثير من العراقيين أن فساد الحكومة وسوء الإدارة يشكّلان سبباً رئيسياً لمعاناتهم.

كان هذا الصيف حافلاً بالمآسي بالنسبة للعديد من العراقيين، فقد شبَّ حريق في جناح العزل الخاص بالمصابين بفيروس كورونا (كوفيد 19) في مستشفى بمدينة الناصرية الواقعة جنوبي البلاد، مما أودى بحياة 60 شخصاً بعد أشهرٍ فقط من حريق مماثل في وحدة العناية المركزة بمستشفى في بغداد تسبب بمقتل 82 مريضاً من المصابين بفيروس كورونا (كوفيد 19).

كما تميّز هذا الصيف أيضاً بارتفاع درجات الحرارة فوق ٤٨ درجة مئوية، في الوقت الذي تخفق فيه الحكومة في توفير الكهرباء التي يحتاجها الناس. ويأتي ذلك تزامناً من الانتخابات الوشيكة، وهي الانتخابات السادسة في العراق منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. ولكن على الرغم من هذه الإخفاقات التي أثارت احتجاجات غاضبة في هذا الصيف الحارق، إلاّ أن العراقيين لا يرون التصويت وسيلة لإحداث التغيير، حتى أن الكثيرين يدعون إلى مقاطعة الانتخابات.

كانت نسبة الإقبال في انتخابات كانون الأول/ديسمبر 2005 بحدود 80 في المئة، بينما شارك ما يُقدَّر بنحو 30 في المائة فقط من الناخبين المؤهلين في الانتخابات الأخيرة التي جرت في عام 2018. ويتوقع الكثيرون أن يكون هذا الرقم أقل هذا العام – لكن لماذا يدير العديد من العراقيين ظهورهم لهذه الانتخابات على الرغم من غضبهم من الحكومة الحالية؟

فشلُ الحكومة في تلبية المطالب في عام 2019

تولّى رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي المنصب في عام 2020 واعداً بمعالجة مطالب الاحتجاج بالإصلاح. وقدَّم الكاظمي نفسه على أنه مرشح المحتجّين، حتى أنه أشرَك في رؤيته قادة الاحتجاج الذين يركزون على هذه القضايا.

وقد سجَنَ الكاظمي المسؤولين ممن انحسر عنهم الغطاء الحزبي السياسي، وهذا لا يمثل استجابةً لمطالب الاحتجاج الأساسية التي لا تدعو إلى إزالة حزب أو زعيم سياسي معين بل إلى إصلاح منهجي.

 كما وعد الكاظمي بالتصدي للفساد، الشكوى الرئيسية للاحتجاج، وقد اعتقلت الحكومة أو أصدرت أوامر بالقبض على العديد من المسؤولين بتهم فساد. 

وقبل بضعة أشهر، أفادت هيئة النزاهة، وهي هيئة مكافحة الفساد الرئيسية في العراق، أن مذكرات استدعاء قضائية قد صدرت بحق 52 مسؤولاً برتب وزارية.

ومع أن البعض رحّب بهذه الجهود في واشنطن، إلاّ أن العديد من العراقيين ما زالوا غير مقتنعين. ثمّة خلاف أساسي حول جذور المشكلة في صُلب هذا المأزق.

بالنسبة إلى الكاظمي، فإن التخلص من الأهداف السهلة نسبياً يُعدّ دلالةً على أجندته لمكافحة الفساد في إطار برنامج إصلاح تدريجي. ولكنّ الأبحاث تشير إلى أنّ العراقيين المصابين بخيبة أمل، أقل اهتماماً بالفساد الطفيف أو الشخصي، من قبيل الرشاوي الصغيرة.

وبدلاً من ذلك، تتركز شكاويهم بوضوح على منظومة الحكم في العراق، التي تُمكِّن الأحزاب السياسية الرئيسية من تقاسم الثروة والسلطة المكتسبة من خلال وصولها إلى الحكومة العراقية، دون ضمان اشتراطات السلامة الأساسية في المستشفيات أو ضمان إمدادات الكهرباء.

إنَّ سَجنَ المسؤولين ممن انحسر عنهم الغطاء الحزبي السياسي لا يمثّل استجابةً لمطالب الاحتجاج الأساسية التي لا تدعو إلى إزالة حزب أو زعيم سياسي معيّن، بل إلى إصلاح منهجي.

كيف مأسَسَ العراق الفساد

تناقِشُ ورقة نشرتها مؤخراً مبادرة العراق في تشاتام هاوس كيف أن أصل مشكلة الفساد في العراق ليس تراكم الثروة الشخصية أو الجشع، بل الفساد المقبول سياسياً.

لقد أبقت ترتيبات تقاسم السلطة العرقية والطائفية بعد عام 2003 – التي كان هدفها في الأصل ضمان الاستقرار المجتمعي – أبقت على اتفاق للنخبة تتنافس فيه الأحزاب السياسية الحاكمة وتتعاون للاستيلاء على المؤسسات الرسمية للحكومة وتقويضها. وبذلك، أثرَت الأحزاب ثراءً فاحشاً على حساب المواطنين.

ومنذ عام 2016، استجاب القادة العراقيون لمطالب الإصلاح من خلال تعيين وزراء تكنوقراط مستقلين وضعفاء. وكانت وجهة نظرهم، هم وحلفاؤهم الدوليون، بما في ذلك الولايات المتحدة، بأن تعيين أفراد من غير السياسيين في مناصب السلطة يمكن أن يساعد في إصلاح النظام.

إلا أنّ التكنوقراط في العراق فشلوا في دفع عجلة الإصلاح. وعلى العكس من ذلك، غالباً ما يشتكي وزراء الحكومة من أنهم عاجزون في مواجهة موظفيهم. لقد انتقلت السلطة من الوزراء إلى كبار الموظفين المدنيين داخل الجهاز البيروقراطي الرسمي.

وتشكّل تعيينات الدرجات الخاصة جزءاً من هذه المنظومة، إذ تُعيّن النخبة الحاكمة موظفين مدنيين رفيعي المستوى تابعين لها ليخدموا مصالحها. وتنتشر هذه المناصب في جميع مفاصل الحكومة، لا سيما في الكيانات المسؤولة عن المقاولات والميزانية لكل وزارة ووكالة حكومية.

وفي الواقع، يدير هؤلاء الموظفون الوزارات بصرف النظر عن التسلسل الهرمي الرسمي. وهم يحددون إلى درجة كبيرة كيفية إنفاق الأموال – وبذلك يحوّلون مبالغ كبيرة إلى رعاتهم. وفي المقابل، يوفر الرعاة لموظفي الخدمة المدنية الغطاء اللازم للاحتفاظ بمناصبهم.

"يوضح تقرير تشاتام هاوس بالتفصيل كيف أن هذا الفساد الممنهح ينطوي على قرار جماعي على أعلى مستويات الحكومة لاستخدام الحصول غير العادل على الموارد الحكومية لصالح النخبة الحاكمة بأكملها."

ولطالما كانت وزارة الصحة جائزة كبرى للنخبة الحاكمة التي عادة ما تختلس ملايين الدولارات من الإيرادات من ميزانية الصحة في البلاد من خلال عمليات التعاقد. وبطبيعة الحال فإن هذه الممارسة قد تترك قطاع الرعاية الصحية مفتقراً إلى الخدمات والمعدات اللازمة.

في أعقاب الحريق الأول، أعلنت الحكومة العراقية عن مراجعة رسمية لإجراءات سلامة المستشفيات. وكانت مطافئ الحريق في الجناح الذي احترق في الناصرية لا تعمل، كما أن المبنى كان مشيداً بمواد بناء رخيصة وقابلة للاشتعال.

وكان وزير الصحة في حكومة الكاظمي، حسن التميمي، الذي أُجبر على الاستقالة بعد حريق المستشفى الأول، عمل لأكثر من عقد موظفاً من كبار موظفي الخدمة المدنية بدرجةٍ خاصة، وبحسب التقارير فقد اتخذ قرارات لصالح التيار الصدريّ الذي يتزعمه مقتدى الصدر. وعلى الرغم من إجباره على الاستقالة من منصبه كوزير، فقد سُمح له بالاحتفاظ بمنصبه كمدير عام.

لماذا يرى العراقيون الانتخابات عقيمةً إلى حد ما

وهذه الحالة ليست حالة شاذة، بل هي تعكس كيفية عمل السلطة والسياسة في العراق. ويوضح تقرير تشاتام هاوس بالتفصيل كيف أن هذا الفساد الممنهج ينطوي على قرار جماعي على أعلى مستويات الحكومة لاستخدام الوصول غير العادل إلى الموارد الحكومية لصالح النخبة الحاكمة بأكملها. ومن بين نتائج هذا النظام الإهمال الذي يؤدي إلى سوء الخدمات، لا بل يسبب الوفيات.

وبينما هم على أعتاب انتخابات أخرى، يعتقد الكثير من العراقيين أن تصويتهم لا يمكن أن يغيّر منظومة الفساد السياسي. فبعد كل انتخابات، تجتمع نفس الأحزاب السياسية معاً لتقاسم وظائف الخدمة المدنية المربحة رفيعة المستوى. وقد سخّر الفائزان الأولان في انتخابات 2018 – الصدريون وفتح المتحالفة مع الحشد الشعبي – نجاحهما من خلال زيادة حصتهما من كبار موظفي الخدمة المدنية.

وأكدت مذكرة صادرة عن إدارة بايدن مؤخراً أنّ جهود مكافحة الفساد كانت مصلحة جوهرية من مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة. يتفق العديد من العراقيين على أن الفساد يشكل تهديداً لسلامتهم وأمنهم، لكن ما أصبح واضحاً هو أن جهود مكافحة الفساد الممنهج في العراق تواجه أيضاً التحدي المتمثل في معالجة الديناميات السياسية التي تقف وراء هذا الفساد.

نُشِر هذا المقال في الأصل في صحيفة واشنطن بوست.

هذا أول مقال في سلسلة مقالات من تشاتام هاوس غرضُها تقديم رؤى متعمقة عن المجريات الداخلية للحكومة العراقية وتقييم ما يمكن للتطورات الأخيرة – المعلنة وتلك التي من خلف الكواليس – أن تفيدنا به بشأن آفاق الوصول إلى دولة عراقية أكثر استقراراً وازدهاراً وخضوعاً للمساءلة. 

وتُعد هذه السلسلة جزءاً من مسار العمل بشأن الاقتصاد السياسي للإصلاح، في إطار مشروع مبادرة العراق الذي يديره الدكتور ريناد منصور وذلك ضمن برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.