ما تزال الانتخابات العراقية قاصرةً عن تحقيق الديمقراطية

مع توجُّه العراقيين إلى صناديق الاقتراع في 10 تشرين الأول/أكتوبر، من المرجح أن يتركز العنوان الأبرز لهذه الانتخابات على انخفاض نسبة إقبال الناخبين أكثر من تركُّزه على الفائزين والخاسرين. 

بالنسبة إلى العديد من صانعي السياسة الغربيين والعراقيين، تُعتبر الانتخابات البرلمانية ضرورية لعميلة الانتقال الديمقراطي حديثة العهد، ولكن البالغة الأهمية في العراق. وكانت نسبة المشاركة في أول انتخابات عراقية حرة عام 2005 قد بلغت 80 في المائة. ومنذ ذلك الحين، أخذت تلك النسبة بالتراجع.

في الانتخابات الأخيرة في عام 2018، بلغت نسبة المشاركة الرسمية 44 في المائة من الناخبين المسجلين، على الرغم من إقرار معظم المراقبين وحتى بعض المسؤولين بأنها ربما كانت أقل من ذلك بكثير، وربما كانت أقل من 30 في المائة. ولا يشعر العراقيون بأنّ الانتخابات تمثل وسيلةً للتعبير عن أصواتهم أو أنها أداة للتغيير.

لا يشعر العراقيون بأنّ الانتخابات تمثل وسيلةً للتعبير عن أصواتهم أو أنها أداة للتغيير.

وللتعبير عن يأسهم، بدأ المتظاهرون في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2019 الجلوس في ساحات المدينة في بغداد وفي جنوب العراق. وقد كانت مطالبهم أكثر من مجرّد تنحية حزب أو زعيم، إذ أرادوا تغيير النظام السياسي برمّته. إلاّ أنهم قوبِلوا بالقوة الفتاكة، إذ قتلت الحكومة 600 متظاهر وجرحت عشرات الآلاف.

في ذلك الوقت، طالب بعض المتظاهرين بإجراء انتخابات مبكرة. وتجري هذه الانتخابات القادمة قبل ستة أشهر من موعدها وذلك لتلبية هذا المطلَب. ومع ذلك، فإن حركات الاحتجاج والعديد من العراقيين يعتزمون مقاطعتها. فبالنسبة إليهم، لم يتغير شيء بنحوٍ جذري في النظام السياسي، إذ تتنافس المجموعة نفسها من الزعماء والأحزاب مرة أخرى لتقاسم ثروة الدولة العراقية الغنية بينهم وبين رفاقهم.

لا تعالج الانتخابات المبكرة جذور المشكلة الفعلية، وهي أن النظام السياسي لا يمثل نسبة ما فتئت تزداد من السكان. ويكافح قادة العراق للحفاظ على السلطة العامة، وهم لا يشاركون ثروة البلاد مع معظم السكان وأصبحوا أقل قدرة من ذي قبل على كسب التأييد الشعبي بالحجج العقائدية.

الانتخابات وسط عنف منهجي

الأهم من ذلك، أنه منذ الانتخابات الأخيرة في 2018، أصبح النظام السياسي أكثر عنفاً بدلاً من الإصلاح والتحسين المنهجيَّين لمعالجة تراجع ثقة الجمهور الذي ظهر في انخفاض نسبة المشاركة في ذلك العام.

وإلى جانب عمليات القتل في ساحات الاحتجاج، طوّر النظام آليات لدحر النشطاء وحاشِدي المجتمع المدني قبل قيامهم بالمظاهرات، وذلك بالاغتيالات المستهدفة والاعتقال والتعذيب وترهيب المجتمع المدني والنشطاء. فالجماعات المسلحة والميليشيات تمارس القتل في وضح النهار، وقد التقطت ذلك كاميرات المراقبة، وتتمتع هذه الجماعات بالحصانة لقاء عملها في حماية النظام السياسي.

وقد سعت الدبلوماسية والمساعدات الغربية خلال هذه الفترة إلى دعم جهود إعادة بناء الثقة بين النخبة والمواطنين، إلاّ أن هذه المبادرات الغربية لم تتعامل مع جذر المشكلة، ألا وهو الحكم غير الخاضع للمساءلة.

لقد أثبت النظام السياسي العراقي الراسخ قدرته على الصمود في وجه التحدي الذي يشكله المحتجون. وبالإضافة إلى العنف الذي يدافع عن النظام، كانت النخبة غير راغبة في إجراء إصلاح جذري. وعلى الرغم من وجود مسؤولين في هذه الحكومة ممن يتعاطفون مع مظالم المتظاهرين، تواصل الأحزاب الحاكمة التنافس والتعاون من أجل عائدات خزائن الدولة التي بالكاد يذهبُ القليل منها إلى المجتمع العراقي.

ويحظى الفساد بالقبول السياسي، إذ أنه جزء من النظام. وبعد هذه الانتخابات، مثلما جرى عقب الانتخابات السابقة، سوف يجتمع هؤلاء النُخبة ليس فقط لتقاسم المناصب الوزارية، ولكن أيضاً لتقاسم المناصب العليا في الوزارات. وسوف تكون هذه المناصب بمثابة قنوات للحصول على العقود والثروة من الدولة العراقية.

وبدلاً من معالجة هذه القضايا الأساسية، ركز المجتمع الدولي على الجوانب التقنية للنظام الانتخابي ونوع التزوير الذي شابَ الانتخابات السابقة.

وتستند مثل هذه البرامج إلى افتراض مفاده أن الانتخابات إذا ما كانت منظّمة بنحوٍ ما يجعلها حرة ونزيهة من الناحية الفنية، فإن المزيد من العراقيين سيشاركون في عملية الاقتراع. لا شك في أن هذه المقاربة قد تُفضي إلى إصلاح تدريجي للنظام، لكن بالنسبة للعديد من العراقيين، فإن الانتخابات مجرد تعزيز للوضع الراهن غير الخاضع للمساءلة الذي تمثله الأحزاب السياسية الحاكمة.

كذلك استثمرت الأطراف الدولية في تدريب المتظاهرين ليصبحوا سياسيين، وحاولت بعض النخب العراقية أيضاً التواصل مع المحتجين. وترى نظرية جلبِ قادة الاحتجاج إلى السياسة أن بإمكان المرشحين البديلين الذين يمثلون السكان المتضررين زيادة الإقبال، والسعي إلى إصلاح حقيقي، وإضعاف سيطرة الأحزاب الحاكمة على النظام.

لكن النتيجة هي إشراك المتظاهرين في النظام الحالي، بدلاً من إصلاح النظام، ونتيجة لذلك، لم تُصلَح الثقة بين النخبة وبقية المجتمع. وعلى العكس من ذلك، تواصل هذه الثقة تراجُعها. 

التسرع في الانخراط السياسي

كان من بين جوانب الفشل في سد الفجوة بين القادة السياسيين الحاليين والمتظاهرين الافتراضُ الخاطئ بأن جميع المتظاهرين والعراقيين المحبطين متَّحدون تنظيمياً.

لكن الاحتجاجات لم تمثل حركة واحدة. خلافاً لذلك، فإن المحتّجين يمثلون العديد من الحركات الصغيرة للمواطنين المتضررين الذين لا يعملون معاً بطريقة متناسقة. لذلك لم ينجح اختيار حفنة من المتظاهرين أو النشطاء من هذه الحركات العديدة لإقامة حوار مع النخبة، وقد اتسمت تلك المقاربة بالتسرّع.

بدلاً من ذلك، قبل الدخول في أي عملية بالاشتراك مع النخبة والنظام الحاليين، يجب إيلاء المزيد من التركيز على الجمع بين قادة الاحتجاج وغيرهم من الجماعات المتضررة في المجتمع لإنشاء أُطرٍ مشتركة تهدف إلى معالجة المشاكل الهيكلية في العلاقات بين الدولة والمجتمع العراقيَّين.

وعلى نحو مماثل، فإن الفئة القليلة من الإصلاحيين المستقلين الذين ظلوا في النظام غير قادرين على إحداث التغيير بمفردهم. يمكن أن تهدف الجهود إلى تقوية الرابطة المشتركة بين هؤلاء الإصلاحيين، الذين غالباً ما يشعرون بأنهم جزر مؤسسية محاطة بالفساد الذي يَتَّسم به الحكم في العراق.

وبمعزلٍ عن الانتخابات، لم يكن للعراقيين رأي في العقد الاجتماعي الذي أُنشِئ في أعقاب الغزو الأمريكي عام 2003. فقد انتهى المطاف بهم إلى منحهم نظاماً سياسياً أثرى النخبة في حين لم يوفر الخدمات الأساسية.

وقد أتاحت الاحتجاجات التي اندلعت فرصة لفئة الشباب المتنامية في البلاد للتعبير عن رأيهم، لأنَّ الانتخابات لم تُحسِّن حياتهم أبداً. ومع ذلك، يواصل كل من المسؤولين العراقيين والجهات الفاعلة الدولية التركيز ليس على الإصلاح المنهجي، بل على الانتخابات بكونها السبيل لإضفاء الطابع الديمقراطي على العراق.

إلاَّ أنه يتعيّن معالجة المشاكل الأعمق جذوراً قبل أن يكون في وسع أي اقتراعٍ أُحادي أن يُحدِث

التغيير.

 

نُشِرت هذه المقالة في الأصل في موقع "جَست سِكيورِتي" Just Security