ترافقت زيارة الرئيس ترمب إلى السعودية وإسرائيل في شهر أيار/ مايو من هذا العام بتصريحات عديدة حول دور إيران في رعاية الميليشيات في الشرق الأوسط. وقد ردّت طهران بإشارتها إلى انخراط السعودية العسكري في بلدان أخرى من المنطقة، ومن دون حتى أن ترفض ما ذَكَرَهُ ترمب حول الرعاية الإيرانية للميليشيات. وقد اتّسعَ نطاق هذه الرعاية على امتداد السنوات الستّ الماضية، بما يتجاوز العراق ولبنان ليصل إلى اليمن وسوريا، من ضمن أماكن أخرى.
وما يزال من المُنتَظر معرفةُ ما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تُتْبِع كلمات ترمب القوية المضادة لإيران بإجراء فِعليّ ضد ميليشياتها في سوريا، لكنّ إيران قد باشرت فِعليّاً بتحضير نفسها لمواجهة أي جُهدٍ مدعومٍ غربيّاً لاحتوائها ميدانيّاً. ليست الطريقة التي تنتهجها إيران في سوريا بالجديدة؛ فهي تتوافق بصورة عامة مع ما طبّقته في لبنان والعراق. وتتمحور استراتيجية إيران للسيطرة في جميع هذه الأماكن حول تكريس النفوذ من الأسفل إلى الأعلى. تنطوي هذه الإستراتيجية على احتمال زعزعة استقرارٍ طويلة الأمد في سوريا حتى وإن تمّ التوصّل إلى تسوية للصراع، ولذا فإنَّ أي إستراتيجية أمريكية تهدف إلى احتواء إيران يجب أن تضع ذلك في الاعتبار.
وفي الظروف الراهنة، فإنّ تركيز الولايات المتحدة في سوريا ما يزال على الجانب العسكري وهو ينصَبُّ على المعركة ضدّ تنظيم داعش. عَقِبَ فترةٍ من تراجع النشاط العسكري في الجنوب، بدأت الولايات المتحدة بإجراء محادثات مع الأردن حول احتمال استخدام مناطق الجنوب السوري حيث ما يزال وجود تنظيم داعش محدوداً نسبيّاً، لتكون بمثابة نقطة انطلاق لشنّ حملةٍ عسكرية تتجه نحو الشمال لتحرير الرقة ودير الزور من سيطرة التنظيم. وكانت قوات الجيش السوري الحر المدعومة من أمريكا والأردن قد نجحت في إيقاف تقدّم داعش في الجنوب خلال الأسابيع الأخيرة بعد أن شنَّ التنظيم هجوماً على قاعدة التنف حيث كانت الولايات المتحدة تقوم بتدريب مجموعات من الجيش السوري الحرّ استعداداً لمعركة دير الزّور.
يُعدُّ تنشيط عمليات الجيش السوري الحرّ في الجنوب مدعاةً لقلقٍ إيراني بالغ، إذ أنَّ التنف تُعتَبَرُ نقطة عبورٍ حدودية إلى العراق حيث ترعى إيران الميليشيات بما فيها قوات الحشد الشعبي التي تحارب داعش في الموصل حاليّاً. وكانت الميليشيات التي تدعمها إيران، بالتعاون مع الجيش السوري، قد تقدّمت نحو التنف في أواسط شهر أيار/مايو، مما دفع بطائرات أمريكية من ضمن قوات التحالف ضد تنظيم داعش إلى قصف قافلة الدبابات الموالية للنظام السوري. ومن المرجّح أنَّ التقدم الذي قامت به تلك القوات الموالية للنظام كان يرمي إلى ربط المناطق التي يُسيطِرُ عليها بشار الأسد وحلفاؤه في سوريا بتلك المناطق الواقعة تحت سيطرة الميليشيات المدعومة إيرانياً في العراق.
وقد تزامن هذا التقدم العسكري مع إعلان بعض قادة قوات الحشد الشعبي رغبتهم بدخول سوريا من العراق بذريعة تحرير الرقة من داعش بعد تحرير الموصل من قبضة التنظيم. إلاَّ أنَّ من شأن ربط المناطق السورية والعراقية تحت مظلّة إيرانية إقامة قوسٍ للوجود العسكري لإيران سوف يتيح لقواتها تطويق مجموعات الثوار السوريين من جهة الشمال الشرقي ومن جهة الغرب أيضاً حيث يسيطر الأسد على معظم المناطق هناك. وسوف يزيد ذلك من حشرِ الثوار السوريين في محافظة إدلب على الحدود السورية.
لم تُفلِح الضربة الأمريكية في إبعاد القوات الموالية للنظام والتي تضم مقاتلين سوريين وإيرانيين وعناصر من حزب الله، حيث واصلت تلك القوات نقل صواريخ أرض-جوّ بالقرب من خطوط المواجهة مع الجيش السوري الحر في المنطقة الشرقية. وجاء هذا التحرُّك بعد وقت قصير من اتفاق كلّ من روسيا وإيران وتركيا في مباحثات أستانا على السماح لإيران بإقامة نقاط مراقبة في ما يُدعى “مناطق خفض التصعيد” في سوريا بما يشمل إدلب والمنطقة الجنوبية، وذلك بحجّة تخليص هذه المناطق من تنظيم داعش والجماعات المتطرّفة الأخرى، وبعد عمليات نقل السكان التي أخلَت المواطنين السوريين الَسُنَّةَ من بلداتهم الأصلية قرب الحدود اللبنانية باتجاه إدلب ليحلَّ محلّهم سُكانٌ من الشيعة كانوا قد غادروا بلداتهم في إدلب هم أيضاً وانتقلوا إلى المنطقة الحدودية، كما نقل حزب الله 3000 مقاتلٍ من المناطق السورية المحاذية للبنان بُغيَةَ إعادةِ نشرهم في شرق سوريا.
تُثيرُ جميع هذه التحرّكات التكتيكية مِن قِبَل إيران والجماعات التي ترعاها قلق الولايات المتحدة وحلفائها حول جدوى إقامة أي نوعٍ من المناطق الآمنة في الجنوب السوري. فمن المحتمل ألاَّ تسمح إيران والنطام السوري بتنفيذ مناطق كهذه وأن يجِدا فيها تهديداً لمصالحِهِما الحيوية.
غيرَ أنَّ هذه الدينامية العسكرية ليست سوى جانب واحد من المسألة. إذ أنَّ العامل المحرّك الآخر ذي الأهميةِ يتعلّق بإجراءات إيران داخل مناطق سيطرة النظام. فمعَ بدايات الصراع السوري استدعَت إيران حزب الله لدعم نظام الأسد الذي بدأ يفقد قدرته أمام الضغط الذي شكّلَه الجيش السوري الحرّ. وفي وقتٍ لاحق، لم تكتفِ إيران برعاية إنشاء الميليشيات الموالية للنظام، وبالأخص قوات الدفاع الوطني لتعزيز القتال إلى جانب النظام، بل ذهبت أيضاً إلى جَلبِ المرتَزَقة من أفغانستان والبلدان الأخرى للمشاركة في الصراع، بالإضافة إلى إرسال قواتها الخاصة وجنودها إلى سوريا.
وفي حين أنّ معظم المقاتلين الأجانب قد يغادرون سوريا في نهاية المطاف إذا ما تمّ التوصل إلى تسويةٍ للصراع، ليس بمقدور إيران تحمّلَ مسألة خسارة نفوذها في سوريا لأنّ ذلك يعني إيقاف خط إمدادها لحزب الله. إذ ترمي إيران، من خلال طرحِها لميليشياتها على أنّها عناصر في القتال ضد تنظيم داعش والجماعات المتطرفة، إلى مواصلة لَعِبِ حزب الله دوراً استشاري الطابع على المدى البعيد. كما أنَّ الميليشيات التي تموّلها إيران في سوريا تحضّر نفسها لوجودٍ طويل الأمد. وقد أسَّس كثيرٌ منها منظمات غير حكومية بهدف كسب ودّ الأهالي في مناطق سيطرة النظام حيث تعمل هذه الميليشيات وللحصول على التمويل من خلال الحكومة السورية، بما في ذلك الدعم الأجنبي المخصص للمساعدات الإنسانية.
تكرّر هذه الميليشيات النموذج الذي انتهَجَه حزب الله في لبنان والذي شَهِدَ تحوّل الحزب من جماعة عسكرية إلى حزب سياسي له أجنحته الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية. كذلك فقد بدأت إيران بشراء الأراضي في سوريا وإجراء الصفقات التجارية والاستثمارية مع الدولة بهدف التأسيس لوجود اقتصادي طويل الأجل في البلاد. ومثلما يجد حزب الله مصلحته في بقاء مؤسسات الدولة في لبنان ضعيفةً لتسويغ استمرار وجود مؤسساته الموازية، فمن المرجّحِ أن تغدو المجموعات المدعومة من إيران في سوريا سبباً لهشاشة الدولة على المدى الطويل.
إذا كانت الولايات المتحدة جادَّة إزاء احتواء إيران في سوريا، فإنَّ مُجرَّد التركيز على تكتيكات إيران العسكرية في القتال ضدّ داعش لا يُعتَبَرُ كافياً. فما يبعث على القلق على نطاقٍ أوسع هو الجهدُ الذي تبذُله إيران من الأسفل نحو الأعلى لاختراق سوريا، والذي سوف يُمكِّنُها من الإبقاء على نفوذها بصرف النظر عن الهيئة التي قد تتّخذها تسوية الصّراع. يتطلّب الأمر إستراتيجيةً تنظر أبعد من المسائل العسكرية وتضع في اعتبارها أهمية التغييرات المؤسّسيّة والاجتماعية الهامة والمباركةِ إيرانيّاً التي تجري في مناطق النظام وليس تلك الجارية في مناطق المعارضة فقط.