إيران تعمِّق بصمَتها في دير الزور

من خلال مشاركتها المباشرة في المعركة ضد داعش في شرق سوريا، فإن إيران تسعى إلى ترسيخ وجودها في محافظة دير الزور بطريقتين.

أولاً، من خلال تأسيس سلطتها العسكرية في مدينة البوكمال على طول الحدود السورية العراقية، وهي الحلقة المفقودة في ممرِّ إيران البري إلى لبنان والبحر الأبيض المتوسط عبر سوريا والعراق. وثانياً بالاستفادة من وجود سكان شيعة في مدينتي حطلة ومراط شرقيّ نهر الفرات لتعزيز نفوذها وإيجاد موطئ قدم شيعي في شرق سوريا.

البوكمال: الحلقة المفقودة

عقب أشهر من القتال العنيف، تمكنت الميليشيات الإيرانية وحزب الله، جنباً إلى جنب مع قوات النظام، من السيطرة على مدينة البوكمال شرقيّ محافظة دير الزور. جاءت السيطرة على المدينة من قبل الميليشيات المدعومة من إيران بعد شهر من محاربة داعش في المدينة والمنطقة المحيطة بها، وقد تقدمت القوات المهاجمة من نقطتَي انطلاق رئيسيتَين: الأولى من محطة T2 (التي تو) الواقعة في البادية الجنوبية للمدينة بقيادة حزب الله وقوات النظام؛ والثانية من داخل الأراضي العراقية المحاذية للمدينة، حيث نُفِّذت العمليات هناك من قِبَل الحرس الثوري الإيراني والميليشيات العراقية المدعومة من إيران.

وأدارت القوات المهاجمة للمدينة غرفةُ عمليات مشتركة بقيادة إيرانية على رأسها قاسم سليماني قائد فيلق القدس الذي قاد عمليات الاستيلاء على المدينة مع مجموعة ضباط من الحرس الثوري الإيراني.

كانت تكلفة المعركة باهظة، فقد خسرت إيران والميليشيات الداعمة أكثر من 200 مقاتل مع عشرات المصابين الآخرين، وكان من بين القتلى اثنان من قادة الحرس الثوري من بينهم خيري صمدي، أحد مستشاري قاسم سليماني، والعديد من قادة حزب الله الميدانيين وغيرهم من الميليشيات العراقية، فضلاً عن مقتَل أكثر من 150 جندياً للنظام. وفي الواقع فإنَّ عدد القتلى الإيرانيين يعكس الأهمية التي أولتها طهران للمدينة.

لم يقتصر الدعم الإيراني في المعركة على القوات البرية، فقد تكلفّلت إيران كذلك بالتكلفة المادية الكاملة لسباق محموم مع الأمريكيين، في حين حاولت الولايات المتحدة تحفيز حليفتها، قوات سوريا الديمقراطية للوصول إلى المدينة أولاً.

ومع ذلك فشلت محاولات الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية لعدة أسباب ليس أقلها تردد الولايات المتحدة. ويبدو أن هذا التردد مصدره التخوُّف من رد روسي يستنكر اتفاق تقاسم السلطة في محافظة دير الزور الذي خصص المناطق الواقعة جنوبي الفرات للنظام وحلفائه وروسيا وإيران، ومناطق شمالي الفرات لقوات سوريا الديمقراطية وأقرانهم الأمريكيين.

وبصورة مماثلة، تأخّر تقدّم قوات سوريا الديمقراطية بفعل مقاومة داعش في قريتي خشام وجديد عكيدات الواقعتين شرقي دير الزور وقوات النظام التي تعبر شمال الفرات للسيطرة على حطلة و مراط والساحلية. وعلى النقيض من ذلك، تقدمت القوات الإيرانية والقوات الموالية للنظام بسرعة منتقلة من منطقة إلى أخرى وتاركةً خلفها مناطق واسعة في ريف دير الزور الشرقي في أيدي داعش من أجل الوصول إلى ضواحي المدينة في الوقت المناسب. كما استفادت قوات النظام من وجود حلفاء لها في شرق العراق مما ساعد على ترجيح المعركة لصالحها.

إن انتصار إيران في البوكمال مكَّنها من تحقيق حلم يراودها منذ عام 1979:وهو فتح ممر بريّ نحو البحر الأبيض المتوسط ولبنان من خلال سوريا والعراق، الأمر الذي ظلَّ طيلة سنوات أحد أكبر المخاوف العربية والإقليمية. وفي الوقت الراهن تعمل إيران على طرد داعش من المناطق المتبقية تحت سيطرتها في البادية السورية جنوب محافظة دير الزور وفي ريف حمص الشمالي والشرقي لتأمين طريقها إلى البحر بصورة تامة.

موطئ قدم شيعيّ

لا تكتفي إيران بإنشاء ممرٍّ بري من خلال مدينة البوكمال، بل تسعى أيضاً إلى خلق جيوب نفوذ في دير الزور في بلدتي حطلة ومراط على غرار الفوعة وكفريا في إدلب ونبُّل والزهراء في حلب.

تخضع مدينتا حطلة ومراط لسيطرة وإدارة العناصر الإيرانية ولجماعات عسكرية محلية بقيادة شخصيات دينية شيعية لها ارتباطات مباشرة بإيران. وتسعى سياسة التغيير الديمغرافي الإيرانية إلى إعادة توطين أفراد من الطائفة الشيعية في هذه المناطق ومنع السكان السنة من العودة إلى ديارهم.

كما أنَّ العداوة التي يكنُّها الكثير من السكان الشيعة في تلك البلدات للفئات الأخرى في المنطقة هي عامل مهم آخر يساعد في تعزيز النفوذ الإيراني. ويرجع جزء كبير من هذا العداء إلى هجوم جرى في منتصف عام 2013 عندما قُتل العشرات من المسلمين الشيعة على أيدي ثوّار سنَّة سوريين انتقاماً لهجوم قام به رجال من حطلة ومراط على سيارة تُقِل أعضاء من الجيش السوري الحر نجم عنه العديد من الضحايا، مما دفع فصائل المعارضة، مع جبهة النصرة، إلى مهاجمة البلدتين، وهو ما أسفر عن مقتل العديد من سكانها الشيعة بمن فيهم النساء والأطفال وقصف دور العبادة الشيعية.

فيما هرب الشيعة الذين بقوا أحياء إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في حي هرابش وقرية جفرا شرقي المدينة حيث شكَّل بعضهم جماعات عسكرية تدعمها إيران.

لا تعمل إيران وميليشياتها الوكيلة فقط على تغيير التركيبة الديمغرافية في مدينتي حطلة ومراط، بل إنها تسعى بصورةٍ نشطة إلى القيام بحملات دينية في مناطق غرب نهر الفرات في دير الزور، من أجل محاولة تحويل سكان تلك المناطق إلى الإسلام الشيعي والانضمام إلى ميليشياتها المنتشرة في أنحاء المحافظة.

وتسعى الحملات الدعائية الإيرانية إلى استغلال الوضع الاقتصادي المتردي للمدنيين الذين استنفدتهم سنوات الحرب من خلال تقديم بطاقات شهرية لكل أسرة تتحول إلى الإسلام الشيعي وتقديم مساعدات غذائية عينية دورية. وتحاول الميليشيات الإيرانية أيضاً استخدام تكتيكات ترهيبية لإجبار المدنيين على الانضمام إلى صفوفها إذا كانوا يرغبون في ضمان بقائهم وتجنُّب الاعتقال. كما تمارس هذه الميليشيات التمييز ضد المدنيين من غير الشيعة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في دير الزور.

تشير جميع هذه الديناميات إلى أن مصلحة إيران في دير الزور طويلة الأمد، فطهران تستثمر في الموقع الاستراتيجي للمنطقة ومواردها وفي وجود جماعة شيعية لتعزيز موطئ قدمها في شمال شرق سوريا والإبقاء على الحدود السورية العراقية هناك رخوةً وسهلة الاختراق.