تواجه الجماعة معضلةً استراتيجيةً في إدلب، كما أنَّ خياراتها تسبِّب رد فعل عكسي على الصعيد المحلي.
في مواجهة الهجوم المستمر للنظام السوري في محافظة إدلب، أخذت هيئة تحرير الشام بالتراجع. فقد تمكنت القوات الموالية للنظام سريعاً من السيطرة على عشرات الكيلومترات وعدد من المواقع العسكرية الاستراتيجية، بما في ذلك ثاني أكبر قاعدة جوية سورية، وهي أبو الظهور. وبصورة مماثلة، تمّت السيطرة على عشرات القرى في حين تتعرض مدن هامة أخرى مثل سراقب لخطر وشيك بالسيطرة عليها.
ولكن في حين أن التقارير عن انسحاب هيئة تحرير الشام من هذه المواقع لا تبدو محلاًّ للطعن في صحّتها، فإن الأسباب الكامنة وراء التراجع حسبما يتكهن كثيرون هي أن هيئة تحرير الشام بدأت تتخلّى عن أنصارها المحليين لتضمن بقاءها على المدى الطويل.
دأبَت هيئة تحرير الشام دائماً على تقديم نفسها كقوة مسلحة لا غنى عنها في المعركة ضد النظام السوري، لذا فإن خساراتها لمساحة كبيرة من الأرض على مدى فترة زمنية قصيرة جاءت بمثابة مفاجأة للسكان المحليين وأشعلت حرباً من الاتهامات ضد هيئة تحرير الشام. وأصدرت جماعات الثوار وشخصيات المعارضة بياناً يتّهم هيئة تحرير الشام بالتراجع من مناطقها دون قيامها بالكثير من القتال. كما ألقوا باللائمة على الهيئة في ما يتعلق بالحالة البائسة التي وصلت إليها جماعات الثوار الأخرى وتحديداً حركتا حزم وأحرار الشام من جرّاء هجمات هيئة تحرير الشام ضدهما.
أما الشخصيات الجهادية الأخرى المعروفة بانتقادها لهيئة تحرير الشام، مثل زعيم جبهة النصرة السابق صالح الحموي (المعروف أيضاً باسم مزمجِر الشام) فقد ذهب خطوة أبعد و اتَّهم الهيئة بتخريب جهود الثوار لمواجهة هجمات النظام، وألقى باللائمة عليها في الانسحاب من مناطق عملياتها دون إعلام الجماعات الثورية الأخرى التي تقاتل إلى جانبها مما تسبب بإفشال الهجوم المضاد الذي شنّه الثوار.
ورداً على ذلك، اتهم زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني، في آخر بيان مصوّر له جماعات الثوار التي وقَّعت على اتفاق خفض التصعيد بالمسؤولية عن خسارة الهيئة للمناطق التي استولى عليها النظام. واوضح أنَّ هيئة تحرير الشام هي الجماعة الوحيدة التى تقاتل بينما انسحبت الجماعات الثورية الأخرى من المناطق المستهدفة فى الاتفاقية التى تصف هذه المناطق بأنها مؤيدة للنظام. وفي مواجهة الهجمات الشرسة التي شنتها القوات الموالية للنظام بمساندة غطاءٍ جوي روسي، لم يكن أمام هيئة تحرير الشام أي خيار سوى الانسحاب للدفاع عن المناطق الأخرى.
ويرى بعض المراقبين أن الهيئة تغيّر تكتيكاتها العسكرية لضمان بقاءها على المدى الطويل. يشير سام هيلر، محلل متخصص بالشأن السوري، إلى قناة تيلغرام مؤيدة لهيئة تحرير الشام تحمل اسم "صناعة الفكر"، توفِّر للهيئة وغيرها من الجماعات الجهادية توصيات سياسية بشأن التكتيكات العسكرية التي يجب أن تعتمدها في مواجهة القدرات العسكرية المتزايدة للقوات الموالية للنظام. وتوصي القناة بأنه في حالة شن هجمات من قِبَل النظام على مناطق جديدة، ينبغي ألا يكون هدف هيئة تحرير الشام والمجموعات المماثلة لها منع النظام من الاستيلاء على المناطق المرغوبة، بل جعل عمليته العسكرية مكلفة قدر الإمكان.
وبعبارة أخرى، إذا كان التوازن العسكري لصالح النظام، فإن الجماعات المقاتلة يجب أن تتحول بعيداً عن مفهوم القتال حتى آخر رجل وتركِّز بدلاً من ذلك على زيادة خسائر العدو من الأفراد والمعدات ما أمكن. ومع ذلك، ينبغي أن يقترن هذا التراجع بتكتيكات أخرى، أي زرع الألغام والأجسام المفخّخة في المناطق المهجورة، فضلاً عن نشر مهاجمين انتحاريين و انغماسيين. يُظهر مسح سريع لوسائل الإعلام الموالية للمعارضة السورية أن هيئة تحرير الشام نفَّذت خلال الأسابيع الأربعة الماضية سبع هجمات انتحارية كما قامت بعمليتين انغماسيتين وراء خطوط العدو. في حين قد يشير هذا إلى تحوّل في تكتيكات هيئة تحرير الشام العسكرية، فمن المهم أن نسلّط الضوء على حقيقة أنَّ الهيئة قد نفذَّت هذه التكتيكات بشكل انتقائي في المناطق التي ليست ذات أهمية استراتيجية أو لا يمكن الدفاع عنها.
وعلى الرغم من الفوائد الطويلة الأجل التي قد تجلبها هذه التكتيكات للجماعة، فإن السمعة العسكرية والدعم المحلي لهيئة تحرير الشام قد تأثَّرا سلباً. وقد ربطت مصادر متعددة على الأرض مؤخراً المظاهرات ضد هيئة تحرير الشام، ولا سيما في بنِّش، بمحافظة إدلب، بالتقهقر المتتالي للجماعة في المحافظة.
وفي ما تبدو أنها محاولة تبذلها الهيئة لتعزيز شعبيتها، أطلقت الجماعة مؤخراً سراح اثنين من قادة الجيش السوري الحر من حركة حزم والفرقة السابعة بعد أكثر من عامين على احتجازهما. كما وافقت هيئة تحرير الشام للمرة الاولى على دفع تعويضات نقدية لضحايا جماعة نور الدين الزنكي الثورية الذين لقوا مصرعهم فى اشتباكات وقعت مؤخراً مع الهيئة.
ونتيجة لذلك، يبدو أن هيئة تحرير الشام تواجه معضلة استراتيجية وهي: إعطاء الأولوية للبقاء على المدى الطويل من خلال التحول إلى تكتيكات المتمردين أو التعبئة للدفاع عن أراضيها والحفاظ على دعمها المحلي. يبدو، على الأقل الآن، أنه ليس باستطاعة الهيئة أن تحظى بكل ما تريد.