هيئة تحرير الشام تواجه تحدي إدارة الاعتدال

تحولَ الخطاب الديني والشرعي لهيئة تحرير الشام نتيجةً لمسيرة تطوّر الجماعة من جبهة النصرة إلى جبهة فتح الشام وصولاً إلى ما هي عليه اليوم. وكثيراً ما استوعبت هيئة تحرير الشام عناصر وعقائد واسعة في المناطق الخاضعة لسيطرتها وتجنَّبت الصِّدام. ومن الأمثلة البارزة على ذلك عدم معارضتها للنُّهُج القائمة على العقيدة الأشعرية التي لها الكثير من الأتباع في سوريا وخاصة بين الفصائل الثورية وداخل المؤسسات الدينية.

في الفترة التي سبقت الثورة، كانت الصوفية والأشعرية سائدتَين في المجتمع السوري، وعندما تشكلت جبهة النصرة فإنها لعبت دوراً رئيسياً في نشر العقيدة السلفية، ولا سيّما في المعاهد الدينية، وقد هاجمت الجماعةُ العقيدةَ الأشعرية وغيرها من العقائد – فكرياً ودون استخدام العنف – وذلك بهدف القضاء على المدارس الدينية التي التزمت بتلك العقائد، مثل معهد النووي.

وكان المعهد الذي يُعلِّم الأشعريةَ مقيداً بشدة، وخاصَّة قبل انفصاله عن القاعدة. يقع المقر الرئيسي للمعهد في مدينة معرة النعمان، وهناك معاهد ومدارس تابعة له تنتشر في جميع المناطق السورية التي تسيطر عليها المعارضة. حين كانت الجماعة لا تزال تُعرَف باسم جبهة النصرة، كثيراً ما طالبت مثل هذه المعاهد بإصلاح بعض موادها التي تتعارض مع السلفية الجهادية.

إلاَّ أن جبهة النصرة، ومنذ أن تحولت لتصبح هيئة تحرير الشام، حاولت اتِّباع سياسة تقوم على استيعاب جميع المدارس الدينية في المناطق المتأثرة بالثورة السورية. وكانت الجماعة تأمل في تقديم نفسها كجماعة متسامحة ومميزة عن داعش التي رفضت جميع المدارس الدينية باستثناء تلك التي اعتمدت مناهجها. كما أرادت هيئة تحرير الشام أيضاً أن تبعَث برسالة إلى الأتراك، الذين تغلُب على الصوفية والأشعرية على مدارسهم الدينية، بأنها ليست معادية لهذه الطرائق الدينية والفكرية.

ولم يأتِ هذا الاستيعاب بدون نقاط تصادم فكري بين السلفية الجهادية التي تنبثق منها هيئة تحرير الشام وبقية التيارات الإسلامية في مناطق المعارضة. وقد قامت هيئة تحرير الشام مِراراً بقمع بعض المعاهد الدينية التي تعارض عقيدتها واشتبكت مع حزب التحرير وشنَّت في بعض الأحيان حملات ضده، إلاَّ أنها كانت تغض الطرف في كثير من الأحيان لتسمح للحزب بالتعبير عن عقيدته في نطاق محدودد.

كان لهذه التحولات تأثير كبير على هيئة تحرير الشام، بما في ذلك توسيع نطاق جاذبيتها كمُكَوِّنٍ في المجتمع السني يتحلّى بالقدرة على الحكم. وقد استفادت الجماعة استفادةً حقيقيةً من تنظيم التيارات الإسلامية الأخرى في إدارة المناطق الخاضعة لحكمها، كما أشرَكَت هيئة تحرير الشام فروعاً للجماعات الإسلامية – بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين والإسلاميين المستقلين وبعض التكنوقراط – في إدارة المناطق المحررة، وإن كان ذلك تحت قيادة الهيئة وإشرافِها.

يتمثّل هدف الجماعة في بناء حاضنة داخل المجتمع للتغلُّب على جميع الفئات المتنافسة والفوز بزعامتها. تريد هيئة تحرير الشام إعلان أنَّ رؤيتها هي التي تُمثّل جميع أهل السُنَّة في مناطق المعارضة، وقد نجحت بالفعل في كسب النخب الإعلامية والأكاديمية من طيفٍ من المجموعات المختلفة ممن قد يرون أن هيئة تحرير الشام هي الخيار الأفضل المتاح وبالتالي يجب الانضمام إليها بدلاً من مهاجمتها وتجنُّبِها.

سيف ذو حدِّين

لكن سياسَتَي الاستيعاب والاحتواء كان لهما تأثير سلبي على البنية الداخلية لـهيئة تحرير الشام، فقد شهدت الجماعة نزاعات داخلية بوجود تيّارٍ من الشرعيين المنحازين إلى السلفية الجهادية الذين يرون في هذه المراجعات تنازلات من شأنها أن تقلل من جاذبية الجماعة، ولا سيّما بالنسبة إلى العناصر الجهادية العقائدية. بالنسبة لمؤيدي هذا الرأي فإن انتهاج هيئة تحرير الشام لسياسة التوظيف المدروس والمشروط أضعفت مبادئ التنظيم.

ونتيجة لذلك، غادر العديد من الشخصيات القيادية في حين انقسمت الكتائب على الأرض، وقد تحولت هذه المجموعات إلى مجموعات متنافسة تحافظ على العقيدة الأصلية والمُعتَقَد الشرعي لهيئة تحرير الشام مثل تنظيم حُرّاس الدين وغيره من التنظيمات الجهادية.

ومن خلال استخدام سياسة الاحتواء، إلى جانب ادِّعاء أنَّ الجماعة قد تغيَّرت، تحاول هيئة تحرير الشام استخدام مجموعات معارضة لها ولكنها ما تزال تتبعُ رؤيتها – مثل حراس الدين – كوسيلة لتحقيق مصالحها الخاصة وكَسبِ الشرعية الدولية. وفي الوقت نفسه، يحاول معارضو هيئة تحرير الشام استخدام سياسة الاحتواء لتقويض الجماعة وانتقاد سيطرتها السياسية وإدانة من انضموا إليها باعتبارهم ليسوا مؤمنين حقيقيين.

ومع ذلك فإن التغييرات التي تحدث داخل هيئة تحرير الشام تُعدُّ إنجازاً كبيراً لزعيمها أبو محمد الجولاني الذي كان قادراً على تغيير الجماعة من جماعةٍ تلتزم فقط بـأدبيّات ومُنظِّري تنظيم القاعدة إلى جماعة تؤمن بالمشاركة الجماعية وإن كان هذا ظاهرياً على الأقل. ويمكن لهذه السياسة أن تُكون بادرةً لبقاء هيئة تحرير الشام كحزبٍ سياسي يتبع نموذج حماس، وبالتالي من المحتمل أن يكون لها دور تلعبه في مستقبل سوريا، على عكس الجماعات الجهادية الأخرى التي فشلت في تبنِّي سياسة الاحتواء وقبول الآخرين.

إلاَّ أن هذا لا يعني أنَّ هيئة تحرير الشام أصبحت متسامحةً مع جميع المعارضين أو أنَّها ستكفُّ عن اعتقال منتقديها، فهي ما تزال محكومة بعقلية أمنية وتخشى من أيِّ منافس باعتباره يمثل رؤيةً بديلةً وتهديداً لوجودها، وترى هيئة تحرير الشام أنَّ كل من يعارضها في الظروف الحالية يساعد النظام وروسيا على التقدم عسكرياً. وما زال يتعين عليها أن تتخلص من جميع تأثيرات وعقيدة تنظيم القاعدة، إذ لا تزال هيئة تحرير الشام تنظر إلى الجماعات الأخرى من خلال منطق التفوُّق وترى نفسها أفضل من يضطلع بالتفويض الإلهي بين الجهاديين.