إن فهم استراتيجيات البقاء المختلفة التي تستخدمها المجتمعات المحلية سيكون مهمّاً لأي عملية مصالحة مستقبلية.
ليست الهجمات التي يشنّها النظام على المناطق التي يسيطر عليها الثوار هي الاشتباكات المسلحة الوحيدة التي يخشاها المدنيون الذين يعيشون في شمال غرب سوريا. فقد شهد العام الماضي زيادة كبيرة أيضاً في الاقتتال الداخلي بين جماعات الثوار العاملة هناك.
وفي سياق استجابتها لمثل هذه المواجهات، طوّرت المجتمعات المحلية أساليب مختلفة لحماية نفسها، وتتفاوت هذه الأساليب ما بين الخضوع الكامل والقتال. وعادةً ما يعتمد اختيار نهج محدد على الأهمية الاستراتيجية للمناطق ذات الصلة وقدرة سكانها على العمل بصورة جماعية كمجتمع موحد.
وقع أول اقتتال واسع النطاق بين الثوار عقِب تأسيس داعش في نيسان/ أبريل 2013، حيث كانت الجماعة تهاجم الثوار الآخرين بشكل مُمَنهج للاستيلاء على المناطق الخاضعة لسيطرتهم. وقد لعب الخوف من تنظيم داعش الذي اعتمد على شبكة كبيرة من المخبرين السريين، دوراً هاماً في خلق حالةٍ من انعدام الثقة بين الناس. لذا فقد كان الخضوع هو التكتيك الأبرز الذي انتهجته العديد من المجتمعات لحماية نفسها من فظائع داعش.
لكن الواقع تغيّر في كانون الثاني/ يناير 2014 حينما رفضت بعض المجتمعات في ريف حلب هيمنة داعش وقررت محاربتها. وكان من شأن قدرة السكان المحليين في تلك المناطق على التصرف بشكل جماعي أن مكّنتهم من هزيمة داعش، الأمر الذي شجع الآخرين على التمرد ضد التنظيم.
وقد ظلّت هذه التكتيكات للحفاظ على النفس هامّةً لسكان المناطق التي يسيطر عليها الثوار بسبب الهجمات المتكررة التي قامت بها جبهة النصرة (التي تُعرف الآن باسم هيئة تحرير الشام) ضد الفصائل الأخرى المناهضة للأسد مثل جبهة ثوار سوريا وحركة حزم وجيش المجاهدين وأحرار الشام وآخرين.
في هذه المرحلة، أصدر مدنيون في مناطق مختلفة بيانات عامة حاولوا فيها النأي بأنفسهم عن الاشتباكات المسلحة. وقد فعلت بعض المجتمعات ذلك من أجل تجنَّب قتل المسلمين الآخرين أو تشتيت انتباههم عن محاربة الأسد، بينما فعل آخرون ذلك لحماية أنفسهم ومنع الصدامات الداخلية بين مؤيدي الجماعات المختلفة في المجتمعات المحلية. وكانت مثل هذه التصريحات عادة ما تحظى بالدعم من فصائل ثورية محلية ليس لديها مصلحة مباشرة في الاقتتال الداخلي.
على سبيل المثال، أثناء هجمات هيئة تحرير الشام ضد أحرار الشام في تموز/ يوليو الماضي، أصدرت بلدة معرة حرمة بياناً نأت فيه بنفسها عن القتال، وحذَّر البيان بوضوح أي فصيل مسلح من دخول البلدة أو عبورها لغرض محاربة فصائل أخرى. وجاء في بيان البلدة أيضاً التحذير من أن منتهكي هذه الشروط سيتعرضون لمواجهات مباشرة مع السكان المحليين. وأخيراً، فإن البيان برَّر مثل هذه التدابير باعتبارها وسائل ضرورية لضمان سلامة المدنيين الذين يعيشون في البلدة ومنع أي انقسام مجتمعي بين سكانها.
وفي حين ساعدت هذه الأساليب بعض البلدات على حماية نفسها، فقد سمحت أيضاً لهيئة تحرير الشام بالتلاعب في المجتمعات المحلية للتركيز على بقائها على المدى القصير وتجاهل محاولات الجماعة الرامية إلى السيطرة على المنطقة. ومن المعتاد بمجرد بدء هيئة تحرير الشام لهجماتها أن تُباشر الجماعة فوراً التوسّط لإبرام الصفقات المحلية مع بلداتٍ مختلفة لتحييدها ومنعِ منافسيها من التحالف مع تلك البلدات.
على سبيل المثال، أثناء هجمات الهيئة ضد أحرار الشام في يوليو الماضي، تمكنت الجماعة من تحييد العديد من معاقل أحرار الشام مثل بنّش وتفتناز. كما تمكنت هيئة تحرير الشام من استخدام هذه الاتفاقيات المحلية لمنع وصول تعزيزات لأحرار الشام من خلال عدم السماح لهم بدخول هذه المناطق.
لكن هذه الأساليب لم تكن ناجحة في حماية المجتمعات التي تستخدمها، وكان أحد أسباب هذا الفشل عدم قدرة المدنيين على إقناع الجماعات الثورية المحلية التي تعمل داخل بلداتها بالبقاء على الحياد. ونتيجة لذلك، كان الفصيل المستهدف يتمكّن من استخدام مثل هذه الحوادث للدخول إلى البلدات المعنية بذريعة حماية نفسه.
إن عجز السكان المحليين عن التصرف بشكل جماعي وإظهار موقف موحد ضد الاقتتال الداخلي والمجموعات المشاركة فيه كان عيباً آخر في مثل هذه التكتيكات. فقد كانت المجموعات الثورية، على الرغم من قدراتها العسكرية، حذرة دائماً من الدخول في مواجهة مباشرة مع المجتمعات المحلية، إذ لا سبيل لكسب مثل هذه المعارك. لكن المسلحين يخشون القيام بذلك حينما يتمكن السكان المحليون من إثبات أن المجتمع بأسره، أو على الأقل نسبة كبيرة منه، سيقاومون بشدة أي محاولة للاستيلاء عليه.
إلاَّ أن هذه الاستراتيجيات ليست متاحة للجميع، وقد لعبت الأهمية الاستراتيجية لبعض البلدات والقرى (مثل مراكز النقل والتجارة) دوراً مهماً في منع هذه المناطق من البقاء على الحياد. إذ نادراً ما يُسمح للمناطق ذات الأهمية أن تُترَك وشأنها، وبالتالي فإنها عادة ما تنتقل من سلطة مجموعة إلى أخرى.
إن فهم مختلف آليات الحفاظ على الذات التي تستخدمها المجتمعات المختلفة في سوريا لا يساعد فقط في تحديد التكتيكات والظروف التي تربط الناس وتجعلهم يتحركون بشكل جماعي كوحدات اجتماعية موحدة. بل إن لهذه المعلومات أهميتها في وضع مقاربات مجتمعية لمقاومة الجماعات المتطرفة مثلَ هيئة تحرير الشام ولقيادة أي عملية مصالحة مستقبلية بين أفراد المجتمع وعبر المجتمعات.