كيف يمكن للمجتمع المدني أن يعمل كمُحاورٍ مجتمعي في دير الزور

  • ريم صلاحي

    The Senior Adviser to Syria, MENA program, International Commission on Missing Persons (ICMP)

    كبيرة مستشاري برنامج سوريا / الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في اللجنة الدولية لشؤون المفقودين

بعد هزيمة داعش في دير الزور وسيطرة الإدارة الذاتية التي يقودها الأكراد على أجزاء كبيرة من ريفها الشمالي والشرقي، أخذت منظمات المجتمع المدني والمنظمات المجتمعية تنهض بازديادٍ بدورِ المُحاورِ بين الإدارة الجديدة والمجتمع المحلي، وكذلك داخل المجتمع المحلي نفسه. وفي حين لعب المجتمع المدني دوراً أكبر، ولربما يمكن القول إنه أكثر مركزية في تعزيز العلاقات الرأسية ، فقد قدم أيضاً دعماً حاسماً للجهات الفاعلة الرئيسية وأصحاب المصلحة في التوسط في النزاعات الأفقية . ومع ذلك، لا يزال المجتمع المدني مقيداً بالسلطة المحلية وديناميات المجتمع وهو في حاجة إلى مزيد من الدعم والتمكين من المجتمع الدولي. 

العلاقات الرأسية

كانت دير الزور من بين آخر المناطق التي خضعت لسيطرة الإدارة الذاتية بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في آذار/ مارس 2018. وبالنسبة للكثيرين في دير الزور – وهي محافظة عربية بالكامل – فقد كانت الإدارة الذاتية التي يقودها الأكراد هيئة جديدة وغريبة. وعلى عكس معظم المناطق الأخرى في شمال شرق سوريا، لا يوجد في دير الزور سكان أكراد، كما أن دير الزور تفتقر إلى أي صلة بالسلطات الحاكمة في الإدارة الذاتية والقوات العسكرية التابعة لها، مما شكل تحدياً كبيراً لمستوى تقبُّلِ الإدارة الذاتية هناك. بالإضافة إلى ذلك، وبسبب استمرار وجود خلايا لداعش في أجزاء من دير الزور، ما تزال الإدارة الذاتية تنظر إلى المحافظة من المنظور الأمني، وهو ما أدى إلى إهمال المنطقة بشكل عام، ليس فقط من قِبل الإدارة الذاتية، ولكن أيضاً – على الأقل حتى فترة قريبة – من قِبَل المجتمع الدولي.

وبينما ركز دعم المانحين الأولي لدير الزور على أنشطة تحقيق الاستقرار وإعادة التأهيل والخدمات الأساسية، بناءً على طلبات الجهات الفاعلة المحلية في المجتمع المدني، فإن هذه الجهات تتلقّى اليوم دعماً متزايداً لمساعدتها على العمل كجهات حوار بين السكان المحليين والإدارة الذاتية. وقد اشتملت هذه الجهود على جلسات حوار مع الجهات الفاعلة المحلية لمناقشة قضايا مثل الأمن والحوكمة والخدمات والاقتصاد وتقديم توصيات للإدارة الذاتية قابلة للتنفيذ. 

وفي سياق هذه الجهود، اجتمعت المنظمات المجتمعية والتقت مع الجهات الفاعلة المحلية في خمس قرى وبلدات مختلفة في دير الزور لتخفيف التوترات بين المجتمعات المحلية والسلطات الحاكمة. وبناءً على نتائج سلسلة من جلسات الحوار، قدمت المنظمات المجتمعية توصيات للمسؤولين المدنيين والعسكريين في الإدارة الذاتية بشأن ثلاثة مواضيع عامة هي: التحديات الأمنية في دير الزور، وهيئات الحكم المحلي، والحوكمة الأكثر تمثيلاً وتشاركية. وتضمنت التوصيات إصدار عفو عام عن جميع المعتقلين السياسيين المحتجزين لدى الإدارة الذاتية، وتمكين الهيئات الحكومية المحلية من اتخاذ قرارات ذات مغزى – وليس رمزية فقط – وتحسين الوصول إلى الخدمات بما يتماشى مع المناطق الأخرى التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية. بالإضافة إلى ذلك، طلبت منظمات المجتمع المدني أن تواصِل الإدارة الذاتية إشراكها بنحوٍ أكثر انتظاماً وفاعلية. 

وكان هناك جهد آخر من هذا القبيل بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني في الرقة والطبقة وركّز على القضايا التي تؤثر على الأمن وأسبابها الجذرية. وقد وُضِعت توصيات من خلال عملية حوار تشاوري بين سبع منظمات مجتمعية ومجتمعات محلية انصبّ فيها التركيز على خمسة مجالات رئيسية هي: التأثير السلبي للمخدرات على المجتمعات المحلية، ودور المنظمات المجتمعية في تعزيز الأمن والاستقرار، والحاجة إلى إدماج النازحين داخلياً والمهجَّرين قسراً في المجتمعات المضيفة، وأهمية تمكين النساء والشباب لتحقيق الاستقرار في المنطقة، وتأثير عمالة الأطفال على الأمن. ورُفِعت التوصيات لاحقاً إلى سلطات المحافظة ومسؤولي الأمن في الإدارة الذاتية. 

ولئن كانت هذه الجهود لا تزال وليدة، إلّا أنها تسلّط الضوء على الدور المهم الذي يمكن للمجتمع المدني وينبغي أن يلعبه في إعلاء أصوات واهتمامات المجتمعات المحلية إلى السلطات الحاكمة – وهو دور يقع في صميم مشاركة المجتمع المدني وعمله. 

العلاقات الأفقية

بالإضافة إلى التوسط في العلاقات الرأسية، بدأت المنظمات المجتمعية في دير الزور أيضاً في دعم تسوية النزاعات على المستوى الأفقي. وبكونها ذات مجتمع عشائري، تعتمد دير الزور بشكل كبير على زعماء العشائر ووجهائها في شؤونها الاجتماعية، بما في ذلك أي تسوية للنزاعات. وتزامناً مع تطوّره، سعى المجتمع المدني بشكل متزايد لدخول هذا المجال وتحسين النظم التقليدية من خلال توفير التدريب وبناء القدرات للزعماء المجتمعيين والعشائريين.

وفي الآونة الأخيرة، ساعدت المنظمات المجتمعية في تشكيل خمس لجان وساطة مؤلفة من زعماء العشائر ووجهاء المجتمع. ومع أن المنظمات لا تشارك في الوساطة المباشرة، إلا أنها لعبت دوراً داعماً في تشكيل اللجان وتدريبها وتقديم المشورة لها. وحتى الآن، نجحت لجان الوساطة هذه في حل عدد من النزاعات المحلية. 

على سبيل المثال، في قرية جديد بكارة بريف دير الزور الشرقي، حلت اللجنة خلافاً بين أصحاب مخبز وعائلات محلية اشتكت من التوزيع غير المتكافئ للخبز. وقد أشركت لجنة الوساطة الطرفين وخلُصت إلى عدم وجود دقيق كافٍ لتلبية احتياجات السكان. وبعد سلسلة من الاجتماعات، نجحت في تقديم طلب إلى الإدارة الذاتية لزيادة كمية الدقيق بمقدار 800 كيلوغرام، وبالتالي حل أزمة الخبز في المنطقة. وفي صراع آخر، تدخلت لجنة الوساطة بين عشيرتين بعد عملية قتل بداعي الثأر. وتبعاً للتقاليد في دير الزور، فإن عقوبة هذه الجرائم هي مغادرة القاتل وعائلته (حتى الأقارب من الدرجة الرابعة). إلّا أن مثل هذا العقاب الجماعي غير إنساني، خاصة في مثل هذه الأوقات العصيبة. وبعد جلسات وساطة متعددة، وافقت أسرة المغدور على إلزام القاتل فقط بمغادرة المنطقة مع السماح لأسرته بالبقاء.

وتكتسب هذه الجهود أهمية خاصة نظراً لعدم وجود إطار قضائي كافٍ وقوانين في أجزاء كبيرة من سوريا، وتساعد على ضمان عدم تولي الأفراد للقانون بأيديهم.

القيود والتوصيات

على الرغم من أنّ المجتمع الدولي قد أحرز تقدماً كبيراً في تمكين المجتمع المدني من لعب دور في حل النزاع، إلاّ أن الواقع هو أنّ هؤلاء الفاعلين لا يزالون مقيّدين إلى حد كبير بسبب كل من السلطة والديناميات المجتمعية في دير الزور. فعندما يتعلق الأمر بالعلاقات الرأسية، يقتصر دور المجتمع المدني عموماً على فهم مظالم المجتمع ورفعها إلى السلطات دون أن يكون قادراً على إجراء التغييرات اللازمة بشكل استباقي. أمّا فيما يتعلق بالعلاقات الأفقية، فلا يمكن للمجتمع المدني التنافس مع الجهات الفاعلة القائمة التي تقوم تقليدياً بحل النزاع. ولكن مع نمو المجتمع المدني وتحسين تدريبه، يمكنه أن يلعب دوراً تكميلياً تشتد الحاجة إليه.

في الوقت الذي يسعى فيه المجتمع الدولي إلى دعم المجتمع المدني بشكل أفضل في دير الزور، يجب أن يسعى إلى ضمان أن السلطات المحلية لا تنظر إلى المجتمع المدني على أنه منافس ولكن كعاملٍ يضيف قيمة ويمكنه أن يساعد الإدارة الذاتية على اكتساب الشرعية والشعبية في المناطق التي تقع خارج معاقلها التقليدية. وفضلاً عن ذلك، فإن الجهات الفاعلة في المجتمع المدني تُعدّ شريكاً ضرورياً في إعادة بناء النسيج الاجتماعي بعد سنوات من الصراع والنزوح الجماعي، ولكن يجب أن تمنحها الإدارة الذاتية مساحة كافية للعمل بشكل مستقل وألّا تسعى لاحتوائها أو تحويلها إلى هيئات رمزية فقط. 

وعلاوة على ذلك، ينبغي للمانحين والمنفّذين الدوليين العاملين في دير الزور الانخراط مع المجتمع المدني والجهات الفاعلة المحلية ذات الصلة كشركاء في تحديد احتياجات المنطقة وعدم الاعتماد على المبادرات أو المناهج الجاهزة ذات المقاس الواحد الذي يناسب الجميع. فأولئك الموجودون داخل المجتمعات أكثر وعياً بالتحديات والفرص الماثلة أمام نشاط المجتمع المدني. كذلك يتعيّن على يجب على المانحين والمنفّذين ألا يقصروا مشاركتهم على المنظمات، بل أن يدركوا أن المجتمع المدني يضم فاعلين غير تقليديين مثل زعماء العشائر والأعيان الذين قد يكون لهم تأثير كبير على المجتمع. وما يزال هؤلاء الأفراد، وفقاً لما تراه لجان الوساطة، يكتسبون أهمية كبيرة في مناطق مثل دير الزور وينبغي زيادة تمكينهم.