صفقة “هيئة تحرير الشام” مع تركيا تعمّق عزلتها عن الجماعات الجهادية الأخرى

بقبولها التدخل التركي في إدلب، تجنّبت هيئة تحرير الشام مواجهة واحدة، لكنها ألقت بنفسها داخل صراع مع رفاقها الأيديولوجيين في المعسكر السلفي الجهادي، الذين كانت علاقاتها بهم متوترة بالفعل.

مانعت هيئة تحرير الشام وحتى آخر لحظة القبول بالتدخل التركي لتنفيذ صفقة تم التوصل إليها في الجولة الأخيرة من محادثات أستانا، وإنشاء منطقة جديدة لخفض التصعيد في إدلب. لكن عواقب معارضة الصفقة – وهي الحرب مع تركيا وقوات الثوار الموالية للأتراك والمعروفة باسم درع الفرات – جعلت الهيئة تأخذ الصفقة على محمل الجد. 

يتعيّن على هيئة تحرير الشام الآن مواجهة الانتكاسات الداخلية الجديدة على رأس سلسلة المشاكل التي تواجهها الجماعة بالفعل. كان لواء نور الدين الزنكي وجيش الأحرار قد انفصلا عن هيئة تحرير الشام بسبب هجومها على حركة أحرار الشام الإسلامية في شهر تموز/ يوليو. كذلك انسحب عدد من الشخصيات الرئيسية من التحالف بسبب تسجيلات صوتية مسربة أعرب فيها العديد من القادة عن عدم احترامهم للرئيس السابق للتنظيم وللمجلس الشرعي. ومع وضع كل ذلك في الاعتبار، أخذت الجماعة في الحسبان حقيقة أن قبول التدخل التركي سيؤدي إلى مزيد من الانشقاقات، وإن كان ذلك بأعداد صغيرة.

ولكنّ ما يقلقها  أكثر من الاحتمال المتوقع لمزيد من الانشقاقات، هو احتمال حدوث ردّ فعل عقائدي كبير. إذ إنَّ الوسط السلفي الجهادي، الذي تنتمي إليه هيئة تحرير الشام، يعتبر قبول التعاون مع الحكومة التركية (العلمانية) انتهاكاً واضحاً لتعاليم المدرسة العقائدية. وكان العديد من أبرز الجهاديين السلفيين قد أعربوا بالفعل عن استيائهم من قرارات جبهة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، حين قطعت العلاقات مع القاعدة في تموز / يوليو 2016،  وذلك بهدف دمج الفصائل من خارج التيار الجهادي لتشكيل هيئة تحرير الشام في كانون الثاني/يناير 2017. وقد فاقمت هذه التحركات غضب شخصيات لها وزنها العقائدي مثل أبو محمد المقدسي، فضلاً عن حدوث العديد من الانشقاقات الداخلية الرمزية. 

بإمكان قيادة هيئة تحرير الشام تسويق موقفها تجاه عمليات انتشار القوات التركية في مناطق سيطرتها الرئيسية على أنها تجري باشتراطات الهيئة (التي من ضمنها أولاً وقبل كل شيء، عدم دخول أي قوات من درع الفرات إلى إدلب)، والقول إن الصفقة تُجنِّبُها حملة عسكرية من شأنها أن تسبب دماراً عسكريا هائلاً في محافظة تستضيف اليوم أكثر من 2.5 مليون نسمة من السكان والنازحين. وفي المقابل، سيُسمح للهيئة بالاستمرار في الهيمنة على إدارة المحافظة. 

طرح هذه الفكرة عضو المجلس الشرعي السابق والداعية السعودي عبد الله المحيسني، وهو من أكثر الشخصيات الكاريزمية في الجماعة، وذلك "بمثابة تبريرٍ لتغيير الفتوى بناء على نتيجة المفاوضات". وقد صدر بيانه في سياق توقعاته بأنّ تغيّر هيئة تحرير الشام موقفها من هذه القضية، وهو ما حدث بالفعل بمجرد ظهور صور لقوات النخبة التركية التي تدخل إلى إدلب يرافقها أعضاء هيئة تحرير الشام. بعد ذلك، سرعان ما انتقل رجال الدين في هيئة تحرير الشام إلى ترويج الأحكام الفقهية التي تؤكد أن الموقف كان مقبولاً، بعد أن كانوا قد حرّموه في وقت سابق. 

ومع ذلك، فإن تسويق هذا المبدأ لن يكون سهلاً في صفوف القادة والجنود الذين تدفعهم الحميّة العقائدية لمحاربة تركيا. وعلى الرغم من عدم وجود تمرد كبير في صفوف رُتب هيئة تحرير الشام تجاه الاتفاق، حيث استمر عناصرها في اتباع أوامر القادة، إلاَّ أنّ القرار لا يخلو من العواقب. 

كان الهجوم الذي شنته داعش بعد يوم من دخول القوات التركية إلى إدلب على منطقة الرهجان الواقعة في ريف حماة والتي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام أحد هذه العواقب. فداعش، التي تخوض معركة ضارية مع هيئة تحرير الشام بالإضافة إلى تنظيم القاعدة في سبيل احتكار تمثيل الجهاد الدولي، لم تكن لتشنَّ مثل هذا الهجوم، نظراً للوضع الصعب للغاية على الأرض، ما لم تكن قد أدركت أنّ هيئة تحرير الشام كانت في موقف محرج داخل المجتمع السلفي الجهادي بعد الاتفاق مع تركيا. 

لم تكن داعش هي المجموعة الوحيدة التي اغتنمت الفرصة لتقويض موقع منافستها داخل العالم الجهادي. ففي اليوم التالي، صدر بيان من مصدر مجهول، معلناً عن إنشاء فصيل جديد في سوريا يُدعى أنصار الفرقان. وأعقب ذلك بيان آخر يصف طبيعة الجماعة باعتبارها منظمة سلفية جهادية. كان من شان ذلك أن يضيف إلى الشكوك في أنّ مؤسسيه هم المنشقون عن جبهة النصرة، تحت قيادة الفصيل الأردني الذي يتزعمه سامي العريدي، الذي يبدو بأنه لقي تشجيعاً لأن يلعب دوراً  أكثر بروزاً عقِب هذا التطور. 

بعد ذلك نشرت أنصار الفرقان بياناً ثالثاً يحظر التعاون مع الجيش التركي، لكنها لم تعلن البيعة لتنظيم القاعدة. وكانت هيئة تحرير الشام قد ذكرت في وقت سابق، وإن بشكل غير رسمي، أنها لن تتسامح مع تأسيس أي فصيل آخر موالٍ لشبكة القاعدة. 

وفي هذا السياق، أدان زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري ما وصفه بأنه "جهود لإطاحة تنظيم القاعدة من سوريا إرضاءً لأمريكا"، دون تحديد من يقف وراء هذه الجهود. 

تدل جميع هذه المؤشرات على تدهور العلاقات بين هيئة تحرير الشام والوسط السلفي الجهادي. فبعد أن فقدت الكثير من شعبيتها من خلال شنّها سلسلة من الهجمات ضد الجماعات الثورية الأخرى هذا العام على أساس أنها -الفصائل- قد دعمت التدخل التركي في إدلب، وفقدانها الدعم من المجتمع الجهادي العالمي، فإن هيئة تحرير الشام سوف تصبح بلا أي ملجأ آخر، لا سيما وأنّ الوضع يصبح أكثر تعقيداً في سوريا. وبهذا فإنه قد لا يكون لها الكثير من المستقبل.