من تركيا إلى ريف حلب الشمالي: أوجه التباين في الإدارة المحلية والأمن

  • حايد حايد

    Consulting Fellow, Middle East and North Africa Programme, Chatham House

    زميل مشارك استشاري، برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

جرت أحداث هذه المادة في أيلول/سبتمبر 2017 وهي تتضمن وقائع رحلة قام بها مصطفى حايد، مؤسس منظمة دولتي السورية غير الحكومية من تركيا إلى ريف حلب الشمالي. أثناء القيام بهذه الرحلة، كانت كل واحدةٍ من المناطق التي سافر إليها مصطفى من إعزاز إلى عفرين، إلى ريف إدلب الغربي، إلى ريف حلب الشمالي، خاضعة لسيطرة مجموعة مختلفة، مع تداعيات وأوجه اختلافٍ بائنة. ونحن ننشر هذه المادة لتقديم منظور منقول من أرض الحدث حول كيفية تأمين وحُكمِ مختلف الأراضي التي يسيطر عليها الثوار في سوريا والتي تحكمها مجموعات مختلفة.

الرحلة: الوجود المسلّح والهياكل التنظيمية

عند مغادرتك تركيا، عبَرت عن طريق باب السلامة وإعزاز، من كان يسيطر على تلك المناطق وما هي الديناميات الأمنية المحلية التي لاحظتها هناك؟

كان معبر باب السلامة على الحدود السورية مع تركيا تحت سيطرة الجبهة الشامية أثناء قيامي برحلتي (تم تسليمه منذ ذلك الحين إلى الحكومة السورية المؤقتة). لدى دخولي، قدمت جواز سفري إلى دورية الحدود لتسجيل تاريخ عودتي إلى تركيا. وبسبب التأشيرات العديدة على جواز السفر، بما في ذلك تأشيرة دخول الولايات المتحدة بشكل ملحوظ، أُحِلتُ إلى مكتب الأمن. وهناك، كان الشاغل الرئيسي هو التأكّد من أنني لست صحافياً والتحقّق من أسباب سفري إلى سوريا. كما أعرب ضباط الأمن عن قلقهم بشأن عبوري من خلال المناطق الكردية، التي يشيرون إليها بمناطق حزب العمال الكردستاني – وهو ما يمثّل انعكاساً واضحاً لنفوذ تركيا في المنطقة. وفي نهاية المطاف سُمِحَ لي بالمرور.

ومن فورِ وصولي إلى إعزاز، بدا  وجود فصائل عسكرية متعددة أمراً واضحاً، على الرغم من أنَّ العلم الأخضر للثورة السورية كان سائداً في جميع أنحاء المدينة. ومن بين تلك الفصائل، عناصر القوات الخاصة الذين هم من الجنود السوريين المدربين في تركيا والذين يعملون كشرطة محلية (دون أن يتبعوا للجبهة الشامية).  يتسبب وجود العديد من الفصائل المسلحة في المنطقة بزيادة حدة التوترات، وعلى سبيل المثال، تُزرع بين الفينة والأخرى  عبوات متفجرة عند نقاط تفتيش مختلفة كشكل من أشكال تصفية الحسابات بين الجبهة الشامية والقوات الخاصة.

كما كان هناك وجود عسكري متزايد حول مكتب الحكومة السورية المؤقتة والمجلس المحلي في إعزاز وهي تقع إلى جوار بعضها البعض. كما جرى تعيين ثلاثة ولاةٍ (محافظون) أتراك في المنطقة، واحد لكلّس، وآخر لإعزاز والآخر للمعابر. ويتضّح الوجود التركي  في إعزاز بشكل كبير من خلال أمثلة كأعضاء وسائل الإعلام الذين يسجلون لدى الجبهة الشامية ولكن يكون عليهم الانتظار للحصول على إذن من تركيا للحصول على بطاقة دخول.

بعد ذلك توجّهتَ إلى عفرين التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي، كيف يختلف الوضع هناك عن المنطقة الأولى التي عبرتها؟

باستثناء المعبر الحدودي، الذي تديره الجبهة الشامية، فإن جميع نقاط التفتيش داخل إعزاز تخضع لسيطرة القوات الخاصة التي تدربها وتموّلها تركيا. وهذا يشمل نقطة التفتيش بين إعزاز وعفرين، التي وصلت إليها ثم عبرتها وصولاً إلى نقطة تفتيش تقع تحت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي.  وهناك، جرى تفتيشي وتمَّ التحقق من بطاقة هويّتي من خلال جهاز كمبيوتر. ثم تمّ جمع المسافرين كافةً عند الحاجز وتقسيمهم إلى فئات من قبيل: العائلات، والرجال العازبين، وأولئك الذين يسافرون بسيارة أجرة مقابل ‘خدمة’.  ثم قام سائق وسيلة النقل المختارة بجمع بطاقات هوية الركاب وأبقى عليها طوال مدة الرحلة. كما طلب من الركاب دفع رسوم مصاحبة قدرها 2000 ليرة سورية.

وبمجرد أن امتلأت عدة سيارات بالركاب، اصطفّت جميعها في قافلة يرافقها جنود من حزب الاتحاد الديمقراطي إلى نقطة التفتيش التالية للخروج من مناطق الحزب. كان الجنود رجالاً ونساء على حد سواء، فيما انتشرت على طول الطريق صور [عبد الله] أوجلان [مؤسس حزب العمال الكردستاني] بشكل واضح للعيان. وقد تم تحديد تكلفة سيارة الأجرة عند نقطة التفتيش الأخيرة، ومن ثمّ أعيدت بطاقات هويات الركاب إليهم بعد التحقق من هويتهم. وكان على سائق سيارة الأجرة دفع 1500 ليرة سورية لعناصر حزب الاتحاد الديمقراطي عند نقطة التفتيش الأخيرة. كما بدا أنّ هناك حصن مع برج من الإسمنت المقوى قيد الإنشاء على تلّةٍ صغيرة، ويطل على المناطق الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام. وتوجد منطقة عازلة كبيرة بين مناطق حزب الاتحاد الديمقراطي وهيئة تحرير الشام، ولا يوجد قتال بينهما. إلا أنّ هناك قصف من تركيا على المناطق الكردية ليلاً.

وبالإضافة إلى المسافرين، هناك أيضاً طريق تجاري نشط بين مناطق الجبهة الشامية ومناطق حزب الاتحاد الديمقراطي في الوقت الحالي، على الرغم من تبادل إطلاق النار أحياناً في المساء. السلع الشائعة هي الإسمنت والوقود. ومع ذلك، بإمكان الشاحنات أن تصل فقط حتى نقطة التفتيش الأخيرة في إعزاز، على غرار الطريقة التي ينتقل بها الأفراد، حيث يتم نقل البضائع عبر الحاجز إلى سيارة أخرى تكون في الانتظار ومن شأنها أن تنقلهم عبر عفرين. وتتكرَّرالعملية  نفسها في مناطق هيئة تحرير الشام، ويبدو أن الضرائب تُدفع على امتداد الطريق.

تبدو الأمور في المناطق التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي خاضعةً لرقابة مشددة. ولا يُسمح لأي شخص ليس من عفرين بدخول المدينة، في حين أن الذين يعيشون في المدينة يحتاجون إلى إذن خاص لمغادرتها. كما يحمل عناصر الشرطة والجنود هناك رموزاً لونية، مع وجود اختلافات تميّز شرطة المرور عن الجنود المرافقين، وما إلى ذلك. يتم تحديد إيجارات السيارات من قِبَل نقاط التفتيش، كما حُدِّدت أسعار المواد الغذائية في محطات الاستراحة مسبقاً من قبل مكتب التموين في حزب الاتحاد الديمقراطي. كما يتم فرض الغرامات على أي سيارات تحاول تجاوز الآخرين في القافلة. بالإضافة إلى ذلك، ليس بإمكان السائقين الذين يعملون في إعزاز  الدخول سوى  بكفالة (الضمان)، التي تسري لمدة سبعة أيام – وكذلك ما يتعلق بشراء الممتلكات.

وقد أثرت هذه الصرامة على المشاعر المحلية، حيث اشتكى سائقو سيارات الأجرة في هذه المناطق من عدم قدرتهم على الرحيل، وجادلوا أيضاً بأن إعزاز والمناطق المجاورة كانت تحت سيطرة تركيا، وأن تركيا لم تشارك في القتال هناك سوى لأن السكان أكراد.  ومع ذلك، لم تكن هناك تفاصيل إضافية عن مخصصات الخدمات في هذه المناطق بسبب عدم القدرة على السفر إلى داخلها.

بعد ذلك تعبُر نقطة التفتيش صفر، وتقع هذه المرة  تحت سيطر ة هيئة تحرير الشام. هل كان هناك وجود مرئي لهيئة تحرير الشام هناك؟

كانت السيارات التي تعمل داخل عفرين تحمل لوحات ترخيص كردية مع علامات .R.S (روجافا) والعلم الكردي. أما في المنطقة المجاورة بعد نقطة التفتيش الأخيرة من عفرين، فتجد سيارات مختلفة تعمل بتراخيص وسجلات متنوعة في المرآب. من هناك، كان المسافرون يُصحبون إلى نقطة التفتيش صفر، الموجود في دارة عزّة التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام. مرة أخرى، تم التحقق من بطاقات الهوية عبر أجهزة الكمبيوتر قبل أن يُنزَل جميع المسافرين مباشرة بعد الحاجز وتعود السيارات إلى مرآب التفتيش قبل نقطة التفتيش. في نقطة التفتيش صفر، يبدو أن هناك خليط من السوريين وغيرهم في الحراسة. دفعت سيارة الأجرة رسماً إلى المرآب الذي يلي نقطة التفتيش قبل نقل المسافرين ودفع رسوم مماثلة إلى منطقة مركزية تسمى سرمدا، حيث يمكن للمسافرين مواصلة السفر في مركبات أخرى إلى مدينة إدلب، الأتارب، وغيرها.

وبمجرّد عبور نقطة التفتيش صفر، لم توقفهم أي من نقاط التفتيش الأخرى في المناطق المجاورة التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام. لم يتم تشغيل الموسيقى في تلك المناطق، وكانت الجدران مغطاة بالكتابات الداعمة لهيئة تحرير الشام والتي تردد الشعارات الإسلامية. وكانت أعلام هيئة تحرير الشام سائدة في مناطقها، ولكن لم يكن هناك وجود ملحوظ للشرطة المحلية، على العكس من عام 2014. وهكذا بدت تلك المناطق غارقةً في الفوضى.  وفي أثناء الخروج، كانت هناك منطقة فاصلة كبيرة بين منطقة هيئة تحرير الشام ونقطة تفتيش فيلق الشام، دون وجود أعلام أو شعارات معروضة، ومن دون وجودٍ مسلح فيها. ولم يتم تفتيش السيارة الذاهبة إلى الأتارب أثناء مرورها على نقطة تفتيش يسيطر عليها فيلق الشام (على الرغم من أنها كانت تخضع للتفتيش في الماضي)، ثم سمح لها بالدخول إلى البلدة.

توفير الخدمات والمجالس المحلية

بعد نقطة التفتيش صفر تكون قد عبرتَ ريف إدلب وريف حلب. كيف تبدو الحياة اليومية هناك؟

أدى إغلاق معبر باب الهوى من قبل تركيا إلى إعراب السكان المحليين عن إحباطهم لتعذُّر عبور الإمدادات، وادّعوا أن تركيا تزعم أنها ضد الأكراد في حين أنها تهرِّب الأسلحة والمؤن لهم من أجل الحفاظ على الصراع بينهم. ويشعر الناس بالضيق أكثر من ارتفاع أسعار السلع مثل الوقود والإسمنت بسبب الرسوم المفروضة عليهم عند نقاط التفتيش. ويرى البعض أن هذه هي بداية الحصار الذي تفرضه تركيا، ويرون أنَّ هيئة تحرير الشام تتعامل مع تركيا والأكراد (يشار إليهم بـ “حزب العمال الكردستاني” من قبل جميع الأفراد الذين تمت مقابلتهم) تحقيقاً لهذه الغاية.

ويمكن تلمُّسُ هذا الشعور عبر مناطق عزاز، والمناطق التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي، ومناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، ويزيد من تفاقمه إغلاق المعابر الحدودية. وأعرب السكان المحليون عن شعورهم بأن تركيا وروسيا والنظام سيتوصلون في النهاية إلى اتفاق لتسليم تلك المناطق إلى النظام. وفي هذه الأثناء هم يشعرون بأن الجماعات المسلحة تستغلهم وتتقاضى أموالهم دون تقديم أي خدمات. وهم يعبرون عن استيائهم وينتقدون الخطوط التجارية المفتوحة بين هذه المناطق لأنهم لا يرون أنها تعود بالنفع على الشعب، وإنما فقط على الأطراف المشتركة في السلطة.

ومن كان يشارك في تقديم الخدمات في إعزاز؟

في إعزاز، يبدو أن تركيا منخرطة في جميع مجالات تقديم الخدمات، من توفير رواتب المعلمين والشرطة، وحتى الشيوخ، إلى دعم المخابز ووسائل الإعلام المحلية. وفي حين أن السكان المحليين سعداء بتقديم الخدمات، فإنهم يشعرون بالقلق إزاء الوقوع في صراع تركيا مع المناطق الكردية المجاورة، ويريدون أيضاً مقاومة ما يرون أنه محاولة تركية لكسبهم عبر تقديم الخدمات لأنها لم تتمكن من السيطرة المباشرة على غرار ما فعلت في درع الفرات.

وينعكس هذا أيضًا في مثال أصغر: فقد تم تثبيت المطبات السريعة على الطرق دون إبلاغ أي من السكان المحليين، لذلك تعرضت سيارات العديد من السكان للضرر في الأسبوع الأول من التركيب. وقد استمر السخط إزاء هذا الحادث لأن السكان لم يكونوا مستعدين للتغيير ولم يُستشاروا، ورأوا أن تركيا قد أجبرتهم عليه.

كانت وجهتك النهائية هي الأتارب في حلب. من هو المسؤول عن إدارة المنطقة وما الذي يأخذه السكان المحليون على المناطق المجاورة التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام؟

في الأتارب، يُلاحظ وجود الشرطة غير المسلحة، والسوق مخصص للمشاة فقط، والطرق نظيفة. وتوفِّر المجالس المحلية المياه للمنازل مرتين في الأسبوع مقابل رسم قدره 1000 ليرة سورية من خلال مسارات ثابتة؛ يغطّي الرسم أيضاً تكلفة تنظيف الشوارع. ومنذ استهداف المخابز، لم يعد السكان يذهبون إلى هناك، وبدلاً من ذلك، تقوم المجالس المحلية بتوزيع الخبز.  وهناك أيضا محكمتان عاملتان،تنتمي إحداهما إلى الأتارب وتعود الأخرى إلى هيئة تحرير الشام. ومع ذلك، هناك أوجه قصور. خلافاً لإنارة الشوارع بالطاقة الشمسية التي تعمل جيّداً في إعزاز، فإن الألواح الشمسية في الأتارب إمّا سرقت أو كُسِرت. وفي حين أن الشرطة المدنية موحّدة، فهي غير مسلّحة، ونتيجة لذلك لا تؤخذ دائماً على محمل الجد. ويشير ذلك إلى أن برنامج التمويل الأمريكي المسؤول عن هذه المبادرات لم يُستكمل. ومع ذلك، فإن الشعور العام إيجابي بشكل عام بسبب انتشار السيطرة المحلية.

يشرف على المجلس المحلي في الأتارب هيئة عامة تتألف من ممثلين عن جميع عائلات البلدة. على الرغم من أن المجلس يشوبه شكاوى من الفساد و”الطائفية” (ما يسمى “التحيز العائلي”)، لا يزال السكان يدفعون ضريبة المياه بمبلغ 1000 ليرة سورية شهرياً.  وتُقتاد نسبة صغيرة من الأشخاص الذين لا يدفعون إلى مركز الشرطة حيث يدفعون في نهاية المطاف.  هذا كله يمنح المجلس المحلي درجة معينة من الشرعية وهو ينبع من حقيقة أن السكان ينظرون إلى المجلس المحلي كنقطة مقاومة لهيئة تحرير الشام ويريدون أن يواصل السكان المحليون تشغيله بأنفسهم، على الرغم من الانتقادات. ويُلحَظُ هذا التركيز على السكان المحليين أيضاً في المواقف تجاه الكيانات المسلحة. وينظر السكان المحليون إلى أبناء الأتارب كأبناء بلدة، بصرف النظر عما إذا كانوا مسلحين أو مدنيين، وبالتالي فإن نقاط التفتيش التي يديرها السكان المحليون لا يُنظر إليها كجزء من لعبة السلطة تمارسها قوة محتلة.