على الرغم من أنّ نتائج الانتخابات تبدو وكأنها تُظهر تحولاً في الدعم السياسي، إلا أن هناك تفاوتاً واضحاً بين التصويت الشعبي وعملية إسناد السلطة.
ظهرت العديد من الأخبار المهمة عن الانتخابات العراقية السادسة منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. وكان الخبر الأول انخفاض نسبة مشاركة الناخبين، التي بلغت رسمياً 36 في المائة من الناخبين المؤهلين، وهي أدنى نسبة مسجلة في التاريخ الانتخابي للبلاد بعد عام 2003. ومع خيبة أمل العديد من العراقيين في النظام السياسي الذي يرسخ النخبة السياسية الفاسدة على حسابهم، فقد كان هذا متوقعاً، وهو ما يعكس توجهاً لانخفاض أعداد العراقيين الذين يصوتون في كل انتخابات.
والأكثر إثارة للدهشة هو النجاح النسبي الذي حققته حركة مقتدى الصدر التي زاد عدد مقاعدها من 54 عام 2018 إلى 73، بينما سجّل تحالف الفتح، منافسها الرئيسي – الذي يمثل قوات الحشد الشعبي – انخفاضاً من 48 إلى 16 مقعداً فقط.
تشير هذه النتيجة إلى زيادة شعبية التيار الصدري بينما تراجع دعم تحالف الفتح، لكن إجمالي الأصوات يكشف عن قصة مختلفة. فبينما تفوَّق الصدريون على منافسيهم في عدد المقاعد، إلا أنهم حصلوا على عدد أقل من الأصوات مقارنة بمنافسيهم الرئيسيين مجتمعين. إذ حصل تحالف الفتح على 467000 صوت و (دولة القانون) على 502000 صوت، بينما حصل الصدريون على 885000 صوت فقط.
ويسلّط هذا التناقض الضوء على جانب رئيسي من القانون الانتخابي الجديد لعام 2019. وكما تُبيّن ورقة صادرة مؤخراً عن مبادرة العراق في تشاتام هاوس، كان الهدف من نظام الصوت الواحد غير القابل للتحويل – وهو نظام الفائز الأول (الأغلبية في دورة واحدة) الذي يتم إجراؤه داخل دوائر انتخابية متعددة المقاعد – إنشاء عملية انتخابية أكثر شفافية عن طريق إزالة الحاجة إلى خوارزميات تخصيص المقاعد المعقدة وتوثيق الصلة بين الناخبين والمنتخَبين.
استراتيجيات انتخابية موزونة بعناية
إنَّ لنظام التصويت هذا وظيفتان مهمتان كما تُبيِّن هذه الانتخابات بوضوح، وهُما إهدار الأصوات وضرورة قيام الأحزاب بمعايرة استراتيجياتها بعناية لتحقيق النجاح في صناديق الاقتراع.
في ظل الأنظمة الانتخابية القديمة للتمثيل النسبي للقائمة المفتوحة أو المغلقة، يمكن إعادة توزيع الأصوات المدلى بها لمرشح على مرشحين آخرين من نفس الحزب. وبالتالي، إذا كانت هناك حاجة إلى 5000 صوت للفوز بمقعد وحصل "المرشح أ" على 10000 صوت، فسيتم إعادة توزيع الفائض البالغ 5000 صوت لضمان انتخاب "المرشح ب".
فبموجب النظام الجديد، ستبقى جميع الأصوات البالغ عددها 10000 صوت مع "المرشح أ "، ما يؤدي إلى عدد كبير من الأصوات الضائعة – وهذا ما حدث لفتح. وكان من شأن الإخفاق في التقييم الدقيق للهيكل الذي يطرحه التشريع الجديد أنّ أولئك الذين حصلوا على عدد من الأصوات يقارب ما حصل عليه الصدريون قد فازوا بمقاعد أقل بكثير.
فهِم الصدريون لعبة النظام الجديد بفاعلية، إذ توقعوا بدقة مستويات الدعم داخل كل دائرة انتخابية، وقاموا بترشيح العدد الصحيح من المرشحين ومن ثم إقناع أنصارهم بتوزيع الأصوات بالتساوي بين المرشحين.
وكانت لديهم أيضاً شبكات متطورة عبر الإنترنت وفي الشوارع، مثل تطبيق الهاتف المحمول القائم على الموقع مع تفاصيل لكل منطقة، ومجموعات وسائل التواصل الاجتماعي لكل دائرة انتخابية، وموظفين مخصصين يركزون على اكتساب المقاعد بدلاً من مجرد عدد الأصوات.
وبموجب القوانين الانتخابية السابقة، كانت الاستراتيجية الواضحة في المناطق التي تعتقد الأحزاب أنها تحظى فيها بمستويات عالية من الدعم هي تقديم مرشحين متعددين، وبالتالي الحصول على مقاعد متعددة. ولكن في ظل القانون الجديد، يمكن لهذه الاستراتيجية أن تؤدي إلى فشل ذريع، لأنه عندما يتنافس العديد من المرشحين من نفس التحالف على الأصوات في منطقة واحدة، فهناك خطر ألا يحصل أي منهم على أصوات كافية ليتم انتخابه، ما يؤدي إلى خسارة كُلّية لتحالفهم الانتخابي.
وهذا ما حدث في دائرة القادسية الأولى حيث تقدم الصدريون بمرشح واحد فقط وفازوا بأكبر عدد من الأصوات. كما رشّح الصدريون بطريقة استراتيجية مرشَّحةً واحدة فازت بمقعد الكوتا النسائية، غير أن أحزاباً أخرى تقدمت بعدة مرشّحات لم تحصل أياً منهنّ على أصوات كافية للفوز بمقعد.
فالأحزاب التي تركز على مرشح واحد فقط في كل دائرة انتخابية، تقلل من احتمال هدر الأصوات ولكن هذا يعني أيضاً أنها قد تفشل في زيادة عدد المقاعد إلى أقصى حد في المناطق التي تحظى فيها بأقوى دعم. على سبيل المثال، شهدت دائرة بغداد الحادية عشرة، وهي دائرة الكرخ، حصول مرشحة دولة القانون عالية نصيف على أكثر من 20000 صوت، بفوزها على المرشح الثاني الناجح في نفس المنطقة بأكثر من 8000 صوت – وهي الأصوات التي كان من الممكن أن تضمن لدولة القانون مقعدًا ثانياً في تلك الدائرة لو أنها استُخدِمت بنحو استراتيجي.
لذا، حتى وإن بدا أنّ التيار الصدري والفتح يتمتعان بمستويات مختلفة تماماً من الشعبية، إلا أن النتائج في الواقع تكشف مدى تطور الآلة الانتخابية الصدرية وتماسكها والتحديات التي يطرحها النظام الانتخابي الجديد.
والواقع أن القوائم الأكثر تماسكاً، مثل دولة ائتلاف القانون الذي يتزعمه المالكي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، تمكّنت من التعامل بنحو أفضل مع هذه الاستراتيجية الجديدة. إلاّ أن تحالف الفتح يتألف من أطراف متنافسة مثل بدر وصادقون وسند، وقد أراد كل حزب أن يقدم مرشحه على قائمة فتح، مما أدى إلى إهدار الأصوات.
حان الوقت للتفاوض بشأن ائتلاف آخر
ومع ذلك، كما تذكُر ورقة مبادرة العراق المنشورة مؤخراً، فإن نتائج الانتخابات ليست العامل الوحيد الذي يؤثر على عملية تشكيل الحكومة القادمة، لأنّ على الصدريّين، وعلى الرغم من فوزهم بأكبر عدد من المقاعد، أن يتفاوضوا بشأن تشكيل ائتلاف.
في الانتخابات المتعاقبة، أسفرت عمليات التفاوض من هذا القبيل عن حكومات توافقية تضم نفس الأحزاب الحاكمة بغضّ النظر عن نجاحها في صناديق الاقتراع. وبينما خسر تحالف الفتح بعض رأس المال السياسي، إلا أنه لا يزال يحتفظ برأس مال قسري قوي، ومن المرجح أن يكون له تأثير أكبر في تشكيل الحكومة مما قد يوحي به عدد مقاعده.
ولكن مثل هذه الإهدار الصارخ للأصوات لن يخفى على جمهور الناخبين. وفي سياق انخفاض نسبة المشاركة في الاقتراع، ستفوز الأحزاب الراسخة ذات القاعدة الاجتماعية الكبيرة وهيكل القيادة الأكثر تماسكاً بمزيد من المقاعد، ولكن يتعيّن الانتظار لنرى ما إذا كان ذلك سيترجم إلى نفوذ أكبر في الحكومة أم لا.
لقد مر العراق بالعديد من القوانين الانتخابية المختلفة، وعلى الرغم من أن هذه القوانين ربما تكون قد غيرت كيفية تخصيص المقاعد، إلا أن نفس الأحزاب ستجتمع في النهاية للحصول على حصتها من خزائن الدولة، مع مراعاة ضئيلة لنتائج الانتخابات. ولا عجب إذاً أن العديد من العراقيين يعتقدون أن الانتخابات ليست وسيلة للتعبير عن مظالمهم أو الضغط من أجل الإصلاح بقدر ما هي ببساطة وسيلة للنخب لإعادة التفاوض على مواثيق السلطة.
تم تحديث هذه المقالة في كانون الثاني/ يناير 2022 لتعكس أرقام التصويت النهائية.