التطورات في إدلب تثبتُ أهمية الدعم المحلي للجماعات المسلحة

على الرغم من التغييرات التي طرأت على خريطة الفصائل السورية منذ عام 2011، إلاَّ أنَّ الجماعات المسلحة المنتشرة في مجتمعاتها المحلية ظلّت هي النواة الأساسية والعامل الأهم في التطورات العسكرية للصراع.

وقد نشأت الجماعات السورية الأولى التي حملت السلاح في النزاع، بما في ذلك الضباط الذين انشقوا عن النظام لتشكيل الجيش السوري الحر، من الجماعات القتالية التي كانت تُشكِّل امتداداً لمجتمعاتها المحلية إلى أن بُذِلَت محاولات لتنظيمها كفصائل أو ضِمن الائتلافات العسكرية.

ومع انتشار الجهادية في سوريا، ازداد الاستقطاب والنزاعات بين الجماعات المقاتلة. فالقوة العسكرية والتمويل والاستراتيجية تلعب جميعها دوراً في نجاحها، ولكن القدرة المحتملة لكلّ من الجماعات المسلحة الرئيسية على الصمود تعتمد أيضاً على علاقة  الجماعة بالمجتمعات المحلية.

تأتي إدلب في صميم هذه التطورات. فمع مرور الوقت، أصبحت محافظة إدلب نقطة التجمُّع الرئيسية للجماعات الإسلامية والجهادية من جهة (أبرزها جبهة فتح الشام)، وللناشطين والثوار المسلحين غير المؤدلجين من جهة أخرى، وخصوصاً الجيش السوري الحر.

الجيش السوريّ الحر.

يتمتع الجيش السوري الحر بقاعدة اجتماعية كبيرة، ونفوذ يمتد عبر منطقة جغرافية واسعة، وترسانة عسكرية قوية، لكنه بقِي مشتّتاً ويفتقر إلى هيكل موحَّد يتجاوز كيان الجيش السوري الحر.

تتباين فصائل الجيش السوري الحر من ناحية قدرتها على حشد المجتمع المحلي للقتال إلى جانبها، وقد يتأثّر ذلك بمدى شعبيتها، والتجاوزات السابقة ضد المجتمع، وتماسك قيادتها، وهيكليّة الفصائل نفسها، وكاريزما قادتها، فضلاً عن مدى سيطرة كل فصيل على أراضيه. وقد أدت هشاشة بعض المواقف السياسية للفصائل أو فشلها في الاستجابة للدعوات إلى التوحّد إلى شكوك محلية بشأن شرعيتها وما إذا كانت جديرةً بالدفاع عنها بالنسبة للمجتمعات المحلية، وأحياناً بالنسبة لمقاتلي هذه الفصائل.

وعلى الرغم من أن الدعم الأجنبي لفصائل الجيش السوري الحر قد أتاح لها إمكانية الوصول إلى قَدرٍ وفيرٍ من الأسلحة والتمويل، إلاّ أنه أضعَفَ قدرتها على الاتحاد وزاد من إصرار قياداتها على إنشاء كياناتهم الخاصة. وقد قُطِع الدعم عدة مرات عن الفصائل التي أقامت تحالفات واندمجت مع فصائل أخرى، في حين تمّ إغراء بعض العناصر لدفعهم إلى الانفصال. كما أن وجود جهات مانحة متعددة لديها سياسات مختلفة قد أضرّ بالعلاقات بين الفصائل وفاقمَ النزاعات فيما بينها. ومع أن الجماعات الإسلامية يجب أن تواجه مشاكل مماثلة إلى حدٍّ ما، إلاّ أنها أثَّرت بشكل حاد في قدرة الجيش السوري الحر على القتال والحفاظ على التماسك.

كما عملت دعاية جبهة فتح الشام على تعزيز الشكوك بين مقاتلي الجيش السوري الحر، بإعلانها أنَّ نزاعها هو فقط مع القيادة “المنحرفة” لهذه الفصائل. ولم تعمل فصائل الجيش السوري الحر أيضا على بناء شعور قوي بالانتماء أو عقيدةٍ قتالية بين مقاتليها – وخاصة المجنّدين الجدد – في مواجهة الجهاديين، وذلك على النقيض من العقيدة القتالية القوية التي يتّخذها الجهاديون ضد منافسيهم. وقد أدى ذلك إلى تقويض التنظيم والشرعية وقاعدة الدعم لبعض فصائل الجيش السوري الحر.

هيئة تحرير الشام (جبهة فتح الشام)

انكشفَت نقاط الضعف هذه عندما بدأت فصائل الجيش السوري الحر في إدلب والأجزاء القريبة من حلب الغربية وريف محافظة حماة الشمالي تنهارُ سريعاً أمام  هجمات تحرير الشام (هتش) التي تُهيمِن عليها جبهة فتح الشام ( جفش، جبهة النصرة سابقاً) – وذلك على الرغم من تفوّق فصائل الجيش السوري الحر بالحجم مقارنةً مع عدد مقاتلي جبهة فتح الشام الشام في المنطقة.

على الرغم من أن الجيش الحر أدرك أنه كان مستهدفاً برُمَّتِه من قبل جبهة فتح الشام، فقد واصل العمل بطريقةٍ فصائليةٍ بشكل رئيسي: فكلّما كان الجهاديون يستهدفون بعض فصائل الجيش السوري الحر، كانت باقي الفصائل الأخرى في الجيش الحر تبقى على الحياد أو تتحرّك فقط عندما تتعرّض لهجومٍ مباشر، كما حاولَت  في بعض الأحيان الوصول إلى اتفاقاتٍ فردية مع جبهة فتح الشام. وقد سهّل ذلك في النهاية استيلاء هيئة تحرير الشام على إدلب عسكرياً.

إلاّ أنّ هذا الاستيلاء لا يعني أنَّ المجتمعات المحلية في المحافظة تعهّدت جميعاً بالولاء لجبهة فتح الشام. وفي الوقت الراهن، تسيطر هيئة تحرير الشام على إدلب عسكرياً، غيرَ أنَّ هذا ليس بالضرورة مؤشِّر على سيطرةٍ سوف يطول أمدُها.

كانت نقاط الضعف الهيكلية لفصائل الجيش الحرّ والأزمات الداخلية هي السبب الأهم لعدم تماسكها على المدى الطويل وردّها الضعيف والمتأخّر على هيئة تحرير الشام. لكنّ تراجعها وتشتُّتِها لا يعنيان بالضرورة أنّ المقاتلين والفصائل المحلية التي تشكل الجيش السوري الحر سوف تتفكك أيضاً. ولا أنَّ قاعدة دعمها المحلّية في معظم المدن الرئيسية في ريف إدلب وحلب آخذة بالتدهور. إذْ تواصل هذه القاعدة المحلية دعم شعارات الجيش السوري الحر الثورية والشعبية ورفض نفوذ الجهاديين على الرغم من افتقار الجيش السوري الحر لقوة عسكرية مركزية موحدة.

وعلى النقيض من ذلك، مع أنَّ جبهة فتح الشام قد تمكّنت من بناء شبكات دعم في إدلب، إلا أنها لم تتمكن إلى حدٍّ كبير من إنشاء قاعدة دعم اجتماعي واسعة. ويعتمد نموذجها العسكري أساساً على استخدام قواتها الخاصة مثل قاطع البادية (في شرق حماة) وجيش النصرة (قوة من النخبة العسكرية المنظَّمة في جبهة فتح الشام) والمقاتلين الأجانب، مع تعاونٍ مؤقت وتكتيكي فقط مع فصائل محليّة أخرى.

وقد تمكنت جبهة فتح الشام من تعزيز نفوذها بسهولة أكبر في المناطق التي شهدت نشاطاً أقل عند اندلاع الثورة، وبقيت تحت سيطرة النظام لفترة أطول أو حيث لم تكتسب المجتمعات المحلية خبرةً في النشاط الثوري أو في إنشاء كتائبها الخاصة، كما هو الحال في مدينة سلقين وحارم وإدلب، حتى وإن كانت المجتمعات المحلية هناك لا تدعم الجهاديين أو تتقبّلهم.

على سبيل المثال، في حملة أطلقتها جبهة فتح الشام عقب محادثات أستانا في كانون الثاني/يناير 2017، تمكنّت الجماعة من الاستيلاء على مخازن ذخيرة كبيرة تابعة لفصيل الجيش السوري الحر المعروف بجيش المجاهدين في قرية الحلزون (في ريف حلب الغربي)، وكذلك قواعد جماعة الجبهة الشامية، في حين أنّها بالكاد واجهت أي مقاومة تُذكَر. إن الانقسامات الداخلية في جيش المجاهدين وحقيقة أنه لم يُحكم سيطرته على أراضيه تعني أن العديد من مقاتلي جيش المجاهدين لم يجِدوا الحماس الكافي للدفاع عن “الحلزون” ضدّ جبهة فتح الشام.

وبالمقابل، استمرت الاشتباكات العنيفة لمدة أسبوع تقريباً بالقرب من جبل الزاوية، ولم يتمكن جهاديّو جبهة فتح الشام من هزيمة فصيل صقور الشام (العضو في أحرار الشام). ويحظى هذا الفصيل بدعم قوي من المجتمع المحلي في بلدة سرجة والمناطق المحيطة بها، حيث رأى سكانها أن الهجوم الذي شنته جبهة فتح الشام كان محاولة من قبل قوّات غازِية تهدف “لاحتلال” منطقتهم.

أحرار الشام

حاولت حركة أحرار الشام الحفاظ على موقع وسطيّ بين هذين الجانبين واكتساب الشرعية المزدوجة – الجهادية والثورية – في حين اتجهت بشكل متزايد (في الآونة الأخيرة، بشكل كامل تقريباً) نحو القوى الثورية المحلية بدلاً من معسكر جبهة فتح الشام.

وتشبه حركة أحرار الشام الجيش السوري الحر في بُنيَتها المكوّنة من الفصائل المحلية، ولكنها تمتلك نظاماً مؤسسيا وأيديولوجيةً ساعدت في تماسكها مقارنةً بالجيش السوري الحر، وتوسّعه وقدرته على المنافسة أحياناً مع جبهة فتح الشام. وفي ظل عدم وجود احتمالات لإحياء الجيش السوري الحر كمؤسّسة موحَّدة، فقد منحت العوامل المذكورة أعلاه أحرار الشام فرصةً لتقديم نفسها كمؤسسة تشكّل مظلّةً بديلة للجيش السوري الحر وبديلاً أكثر اعتدالاً من جبهة فتح الشام.

لكن أحرار الشام لا تقيم صلات قوية مع المجتمع المحلي في جميع المناطق التي توجد فيها، كما أنَّ فصائلها لا تعمل دائماً كوحدة متكاملة. في مواجهة احتمال الهجوم من قبل هيئة تحرير الشام، توسَّطت بعض الفصائل في اتفاقات محلية مع جبهة فتح الشام وانضمت لها هيئة تحرير الشام، بينما قررت بعض الفصائل التي اختارت عدم الانضمام البقاءَ على الحياد وعدم محاربة هيئة تحرير الشام.

على سبيل المثال، في الأتارب، التي كان مقاتلوها يشكّلون العمود الفقري لحركة حزم التي دمّرتها جبهة النصرة في آذار/ مارس 2015، لم تتمكن هيئة تحرير الشام حتى الآن من وقف المظاهرات الشعبية ضدها أو إحكام سيطرتها على البلدة. وينطبق الأمر نفسه على معرة النعمان، حيث أجبرت الاحتجاجات الغاضبة ضد جبهة النصرة (التي أصبحت تُعرَف فيما بعد بجبهة فتح الشام وهيئة تحرير الشام) على الانسحاب من المدينة، على الرغم من أن الفرقة 13 (لواء محلي) لم تتمكن من هزيمتها عسكريا.

وقد تكررت مشاهد مقاومة المجتمع المحلي ضد هيئة تحرير الشام في سراقب والأتارب وغيرها من المدن خلال المعركة الأخيرة بين أحرار الشام وهيئة تحرير الشام. وقد أدى ذلك إلى إبقاء تلك المدن تحت سيطرة المجالس المحلية وإمَّا طرد هيئة تحرير الشام من تلك المدن أو منعها من اقتحامها.

استمرار العوامل المُحرِّكة المحلية

طوال فترة النزاع السوري حافظت المجتمعات المحلية بدرجة كبيرة على ولاءاتها واستجاباتها الأولية للانتفاضة الشعبية، فضلاً عن طابع الجماعات المسلحة التي انبثقت عنها. فقد حافظت القواعد المحلية الأصلية للانتفاضة ومراكزها التي نشأت في وقتٍ مبكّلر لدعم الجيش السوري الحر، مثل جبل الزاوية ومعرة النعمان والأتارب وكفرنبل وسراقب، حافظت على روحها الثورية المحلية ورفضت بالقوة أحياناً تأثير جبهة فتح الشام والجهاديين. وقد تمكَّنت جبهة فتح الشام من سحق بعض الفصائل في تلك المناطق، لكنها لم تتمكن من محاربة المجتمع المحلي.

وبينما يـتمدد الإسلاميون انطلاقاً من إدلب، من المهم تذكُّرُ أنَّ السيطرة العسكرية ليست مؤشراً على دعم المجتمع المحلي.