المجتمع المدني خطُّ الدفاع الأخير ضد هيئة تحرير الشام في شمال غرب سوريا

بعد انقضاض هيئة تحرير الشام على ضواحي حلب الغربية في كانون الثاني/ يناير 2019 وتقدّم النظام السوري في جنوب إدلب بين نيسان/أبريل 2019 وكانون الثاني/ يناير 2020، اختفت المجالس المحلية الشعبية المستقلة. وفي بداية الأمر، توقف كل الدعم الموجّه نحو توفير الخدمات وجهود تحقيق الاستقرار والحكم المحلي، قبل تخفيضه إلى الحد الأدنى. وقد حُرِمت الأطراف الفاعلة المحلية، بما في ذلك المجتمع المدني المحلي، إلى حد كبير من الوسائل اللازمة لمواصلة عملها المجتمعي وتُرِكت وحدها في مواجهة هيمنة هيئة تحرير الشام، ما يؤكد الحاجة إلى استمرار الدعم الدولي للمجتمع المدني المحلي.

قبل هذا التقدم الذي حققته هيئة تحرير الشام في المنطقة، لعبت المجالس المحلية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في شمال غرب سوريا دوراً مهماً في الحكم المحلي وتمكّنت من تحقيق مستوى كبير من الشرعية. وساعد العديد من منظمات المجتمع المدني في دعم إضفاء الطابع المهني على المجالس المحلية، مثل LDSPS (التنمية المحلية ودعم المشاريع الصغيرة)، LACU (وحدة المجلس الإداري المحلي) وLDO (منظمة التنمية المحلية). وقد تراوح الدعم من إدارة المشاريع إلى بناء القدرات، وفي بعض الحالات، التمويل المباشر. لكن لسوء الحظ، أصبح هذا الدعم أكثر صعوبة الآن نظراً إلى أن المنطقة أصبحت تحت سيطرة كيانات إرهابية محددة، وينطبق هذا بصفة خاصة في إدلب الكبرى.

كانت الأطراف الفاعلة في المجتمع المدني، بالتعاون مع المجالس المحلية، أساسية أيضاً في جهود تحقيق الاستقرار في إدلب الكبرى، بما في ذلك تطوير مشاريع سبل العيش، وتوفير البنية التحتية الإنسانية الأساسية ودعم التعليم. وعندما عززت هيئة تحرير الشام سلطتها على جزء كبير من إدلب الكبرى، فرضت سيطرتها ونفوذها على المجالس المحلية القائمة. وجرى حلُّ المجالس التي رفضت الخضوع واستبدُلِت بها مجالس معينة مرتبطة ارتباطاً مباشراً بحكومة الإنقاذ السورية. وعلاوة على ذلك، نُقِل الكثير من أدوار وسلطات المجالس المحلية إلى المديريات الفنية لحكومة الإنقاذ، ولا سيما تقديم الخدمات وتنسيق الإغاثة، ما يجعل العمل غير الإنساني من قبل الجهات المدنية أمراً شبه مستحيل.

ومع ذلك، تظل جهود تحقيق الاستقرار عنصراً مهماً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، جنباً إلى جنب مع تقديم الخدمات وتسوية النزاعات المحلية. هذه هي القضايا التي يمكن للجهات الفاعلة في المجتمع المدني في المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام أن تساعد في معالجتها مع ضمان الاستقلال والحياد. في الواقع، نظراً لأن سيطرة هيئة تحرير الشام على المجتمعات المحلية تختلف من منطقة إلى أخرى -فهي مطلقة في أماكن مثل حارم وسلقين، ولكنها أقل بروزاً ورسوخاً في أماكن مثل جسر الشغور ومعرتمصرين- هناك مساحة للجهات المدنية للتدخل وملء الفراغ.

في الوقت الحاضر، تشارك الأطراف الفاعلة المدنية المحلية في مناطق هيئة تحرير الشام بشكل رئيسي في مشاريع الإغاثة، مثل توزيع سلل الغذاء والمأوى والمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية. وقد ظهرت عدة فرق تطوعية بمستويات مختلفة من التنظيم في جميع أنحاء المنطقة. أكثرهم شهرة ورسوخاً فريق ملهم التطوعي الذي يعتمد إلى حد كبير على التبرعات الخاصة من خارج سوريا. وتعمل معظم فرق التطوع في إدارة المخيمات، ورعاية الأيتام والمساعدة في النفقات الطبية.

يعتبر قطاع الصحة قطاعاً مهماً للغاية تديره حالياً الأطراف الفاعلة المدنية. توجد سبع منظمات غير حكومية كبيرة مسؤولة عن إدارة القطاع الصحي، بما في ذلك إدارة المستشفيات، وتوفير الخدمات الطبية، وإحالة الحالات إلى تركيا. كما أنها تلعب دوراً رئيسياً في توعية المجتمع. وهذا مهم بشكل خاص خلال جائحة كوفيد-19، إذْ كانت تلك المنظمات أول المستجيبين والمحاورين الرئيسيين مع المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية.

ثمة دور آخر، وإن كان أقل بروزاً، يلعبه الفاعلون المدنيون في مجال التعليم، وخاصة التعليم غير الرسمي. فمعظم المدارس في المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام إما أغلقت أو أصبحت تحت النفوذ غير المباشر لحكومة الإنقاذ التي حاولت التأثير على قرارات مديرية التعليم التابعة للحكومة المؤقتة. لذلك، أخذت عدّة منظمات غير حكومية محلية على عاتقها تطوير التعليم البديل وبرامج التدريب المهني. تقدم هذه البرامج التعليم الأساسي للأطفال في سن المدرسة وفرصة إجراء الامتحانات الوطنية.

يمكن لمنظمات المجتمع المدني المحلية في مناطق هيئة تحرير الشام أن تستفيد من التصورات السلبية السائدة عن الأطراف الفاعلة الإدارية المرتبطة بهيئة تحرير الشام، وتساعد في سد الفجوة في مجالات مهمة مثل الشمول والتنوع، وتوفير الخدمات المحلية – بما في ذلك فرص كسب العيش – وحل النزاعات المحلية وبناء السلام. لمعالجة مسألة الشمول والتنوع، يجب أن تركّز المنظمات على خلق مساحات آمنة للنساء للِّقاء ومناقشة قضاياهنّ وأولوياتهنّ. ويمكن لمشاريع التمكين الاقتصادي للمرأة أن تكون نقطة بداية ممتازة لإنشاء مثل هذه المساحات. ومن الممكن معالجة مشاركة المرأة في الحياة العامة وخلق منتديات للمناقشة تتضمن أجزاء أخرى من المجتمع في المناطق التي لا تكون فيها قبضة هيئة تحرير الشام على المجتمع المحلي مُحكَمة.

في ما يتعلق بمسألة تقديم الخدمات، يمكن للمجتمع المدني المحلي أن يلعب دوراً تنسيقياً مهماً داخل المجتمع في إعداد قوائم المستفيدين وتنسيق التوزيع لضمان الشفافية والشمول. كما يمكن لأطراف المجتمع المدني الفاعلة التواصل مع مجتمع المانحين، إذ يُنظر إلى هذه الأطراف على أنها مستقلة، ويمكنها قيادة الجهود بشأن تقييمات الاحتياجات واستطلاعات رضا المجتمعات المحلية. علاوة على ذلك، هذه الأطرافـ بُحكمِ تعريفها، هي من يخلق الوظائف ويمكنها توفير التمويل الأولي لمشاريع سبل العيش الصغيرة. يجب أن يكون الدعم الدولي لهؤلاء الفاعلين المحليين صغيراً وتراكمياً حتى لا يجذب انتباه سلطات الأمر الواقع المحلية ولتجنّب أي تحويل لمسار المساعدات أو تسييسها.

إن أهم دور يمكن أن يلعبه المجتمع المدني المحلي في المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام هو تسوية النزاعات المحلية والوساطة. ونظراً لافتقاد المجتمعات المحلية إلى الثقة في النظام القضائي القائم، فإنها تبحث عن بدائل لحماية حقوقها وضمان تحقيق العدالة. يمكن للأطراف الفاعلة المدنية المحلية أن تقوم بدور ممتاز في الوساطة وحتى في التحكيم، ولا سيما إذا كان مجتمعهم المحلي ينظر إليهم على أنهم مستقلون وموثوقون. كما تلعب الأطراف الفاعلة المدنية المحلية أيضاً دوراً رئيسياً في تخفيف التوترات الاجتماعية بين النازحين داخلياً والمجتمعات المضيفة من خلال تطوير برامج كسب العيش المشتركة ومساحات التبادل الثقافي.

إن الأطراف الفاعلة في المجتمع المدني المحلي هي خط الدفاع الأخير في المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام. وهم حماة التماسك الاجتماعي ومساهمين مهمين في السلام المحلي. لذلك، من الضروري مواصلة الدعم الدولي لهذه الهياكل المحلية مع ضمان استقلاليتها وأهميتها المحلية وحمايتها. في سبيل ذلك، يجب أن يعتمد المانحون الدوليون على وسطاء سوريين لديهم خبرة مثبتة في هذه المجالات، ولديهم إجراءات عناية واجبة واسعة النطاق ويمكنهم إظهار ضوابط غسل الأموال ومكافحة الإرهاب المطلوبة وتطبيقها. ينبغي للمانحين أيضاً تحديد حجم دعمهم بشكل صحيح حتى لا يلفت انتباه سلطات الأمر الواقع: يجب أن يكون الشعار ''ابدأ بالقليل وزِده بالتدريج''. وأخيراً، يمكن للوسطاء السوريين أيضاً لعب دور أساسي في المراقبة والتقييم لضمان وصول المساعدات إلى المستفيدين المستهدفين. لذلك، يُعدّ بناء القدرات المستمر في المراقبة والتقييم وإدارة المخاطر والعناية الواجبة أمراً بالغ الأهمية.