يتعيّن على رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني أن يتصدى وجهاً لوجه للفساد الذي يحظى بقبول الطبقة السياسية، وإلّا فإنه قد يقع في نفس الفخ الذي وقع فيه أسلافه في رئاسة الحكومة.
بعد نحو عامٍ من الانسداد السياسي والعنف، أصبح لدى العراق الآن حكومة جديدة ورئيس وزراء جديد هو محمد شيّاع السوداني. وقد قطع السوداني على نفسه عِدة وعودٍ بالإصلاح، بما في ذلك توفير عشرات الآلاف من فرص العمل الجديدة ومعالجة الفساد المستشري، علماً بأنّ أسلافه سبق وأن قطعوا وعوداً مماثلة إلاّ أنهم باءوا بالفشل في نهاية المطاف. فهل يستطيع السوداني أن يرسم مساراً مختلفاً أم أنه سيكرّر أخطاء سابقيه؟
يتقلّد السوداني منصبه في وقت يشعر فيه العديد من العراقيين بالحرمان من حقوقهم، وخلال نحو عشرين عاماً منذ تغيّر النظام، خسرت النخبة في العراق سلطتها الاقتصادية والأيديولوجية باطّراد، وقد فرض التدهورُ الاقتصادي في البلاد وتزايدُ أعداد الشباب أعباءً على النظام. ويغدو أكثر صعوبةً على الزعماء الجدد ادّعاء أنهم إصلاحيون حقيقيون في حين أن النخبة السياسية كانت على مدى العقدين الماضيين تحكم البلاد بوجود ثروة هائلة (بميزانيات سنوية كانت تصل إلى نحو 100 مليار دولار) ولكنها فشلت في توفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه.
وبعد أسابيع من تولّيه منصبه، واجه السوداني فضيحة فساد كُبرى سماها العراقيون "سرقة القرن". ووفقاً لما أفادت به التقارير فقد سرق المسؤولون في حكومة الكاظمي السابقة 2.5 مليار دولار أميركي من بنك الرافدين المملوك للدولة. وفي أعقاب ذلك، ظهر السوداني على شاشة التلفاز محاطاً بمبلغ 100 مليون دولار أميركي نقداً ليُعلِن أنه كان يعمل على استعادة الأموال.
وفي حين أن إعادة أموال الدولة المسروقة قد تُمثّل فوزاً سريعاً، إلّا أن للمشكلة جذور أعمق. إذ لا يزال العديد من الأطراف الضالعة في الاحتيال يشغلون مناصب في السلطة ويدعمون حكومة السوداني أيضاً. وبرغم أنّ حملة رئيس الوزراء لمكافحة الفساد قد تستهدف بعض الأهداف السهلة، إلّا أن أصحاب النفوذ الحقيقيين في الدولة سوف يظلّون في مأمَنٍ من العقاب. وما لم يجرِ التصدي وجهاً لوجه للفساد الذي يحظى بقبول الطبقة السياسية، فإن السوداني يخاطر بالوقوع في نفس الفخ الذي وقع فيه أسلافه الذين وعدوا بالإصلاح ولكنهم بدلاً من ذلك أذكوا نيران الفساد.
إذاً ما الذي يعد به السوداني، وهل يمكنه تحقيقه؟
توفير فرص عمل في القطاع العام
في ما مضى، كانت الثروة النفطية الهائلة التي يتمتع بها العراق سبباً في تمكين زعمائه من اكتساب الدعم من خلال إيجاد فرص العمل في القطاع العام. وكان رئيس الوزراء السابق نوري المالكي هو الأكثر نجاحاً في ذلك، إذ أوجدَ أكثر من 600,000 فرصة عمل، وها هو السوداني يريد أن يحذو حذوه من خلال الإعلان عن توفير عشرات الآلاف من الوظائف الجديدة.
إلّا أنّ المالكي فعل ذلك في وقت كانت فيه أسعار النفط مرتفعة وكان عدد السكان أقل، ناهيك عن أنّ القطاع العام كان أصغر حجماً مما هو عليه الآن. أما اليوم فإن أعمار ما يزيد على 60 في المئة من سكان العراق هي أقل من 25 سنة، بينما يدخل نحو 700,000 شخص سوق العمل سنوياً، مقارنة بـ 450,000 شخص في عام 2009. وقد تكون المقارنة الأكثر واقعية للسوداني هي مقارنته مع رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي الذي حاول في عام 2019 إيجاد 200,000 فرصة عمل في سياق ديموغرافي مماثل لسياق العراق اليوم، بَيدَ أن خططه أُلغيت بسبب قيود الميزانية التي حالت دون دفع الرواتب.
وعلى الرغم من ارتفاع أسعار النفط حالياً، إلّا أن القطاع العام في العراق هو أيضاً أكبر بكثير اليوم. وبحسب ما ذكره وزير الصناعة والمعادن مؤخراً فإنه يتعين على الوزارة اقتراض الأموال لدفع رواتب 40,000 موظف غير ضروري وغير منتج، وهو إرث من السياسات الحكومية التي زادت وظائف القطاع العام تسعة أضعاف منذ عام 2005 وأدت إلى معدل إنتاجية للموظفين قدره 17 دقيقة في اليوم.
قد يبدو عرض الوظائف حلاً سريعاً لأزمة شرعية الحكومة الجديدة، ولكن مثل هذه التكتيكات فشلت على الدوام في معالجة المشاكل البنيوية الأساسية في العراق أو تحسين مستويات المعيشة. ولا يزال معظم العراقيين يعانون من نقص الخدمات الأساسية على الرغم من الثروة النفطية الهائلة للبلاد.
مكافحة الفساد
في محاولة لاستعادة الشرعية وثقة الشارع، وعدَ السوداني كذلك بمكافحة الفساد، لا سيما في تقديم الخدمات، وأنشأ الهيئة العليا لمكافحة الفساد، المكلّفة بمتابعة قضايا الفساد الكبرى بدعم من وزارة الداخلية.
لكن السوداني ليس أول رئيس وزراء عراقي يحاول ذلك، فقد أنشأ المالكي المجلس التنسيقي المشترك لمكافحة الفساد، وأنشأ العبادي المجلس الأعلى لمكافحة الفساد – الذي أعاد هيكلته لاحقاً خلفه عبد المهدي – وأنشأ الكاظمي اللجنة العليا لمكافحة الفساد، التي علقتها المحكمة العليا في العراق لاحقاً لانتهاكها الدستور.
ولم تفعل جميع هذه المبادرات شيئاً يُذكر لمكافحة الفساد، لا بل إنها كانت تُستخدم لاستهداف المعارضين السياسيين، حتى أن بعضها متهمٌ بانتهاكات حقوق الإنسان.
في نهاية المطاف، فشل رؤساء الوزراء هؤلاء جميعاً لأنهم كانوا مدعومين من النخب الحاكمة المسؤولة عن الفساد الذي يزعمون أنهم أرادوا القضاء عليه، ولا يختلف السوداني عن غيره هنا.
تجنُّب إخفاقات الماضي
على الرغم من استقالة السوداني من حزب الدعوة الذي اتهمه السوداني بالفساد، إلاّ أن حكومته ما تزال تعتمد على دعم هذا الحزب وغيره من الأحزاب الحاكمة الأخرى في منظومة ما بعد عام 2003، كما أنّ التسوية التي توصّل إليها لكي ينال منصبه تحُدّ من قدرته على الشروع بالإصلاح وتُرغِمه على تكرار نفس السياسات التي انتهجها أسلافه الذي كانوا جميعاً مرتهنين لنفس الأحزاب الحاكمة.
من أجل الشروع في الإصلاح الحقيقي، سيحتاج السوداني إلى قاعدة دعمٍ جديدة تكون بعيدة عن داعميه السياسيين. وسوف يتعيّن عليه بناء ائتلاف من الإصلاحيين من داخل الدولة والمجتمع الأوسع، الذين هم حالياً معزولون وغير قادرين على إحداث التغيير بمفردهم. ويمكن أن يكونوا معاً قوة للتغيير بإمكان السوداني استخدامها وسيلة ضغط في وجه داعميه السياسيين. ولا شكّ في أن هذا أمر صعب، ولكن ما لم يكن السوداني على مستوى التحدي فمن المستبعَد أن يحقق الإصلاح الذي يحتاجه العراق أمَسَّ الحاجة.
هذه المقالة جزء من سلسلة مقالات ينشرها تشاتام هاوس تهدف إلى تقديم رؤى متعمقة عن المجريات الداخلية للحكومة العراقية وتقييم ما يمكن للتطورات الأخيرة – المعلنة وتلك التي وراء الكواليس – أن تكشف عنه بشأن آفاق الوصول إلى دولة عراقية أكثر استقراراً وازدهاراً وخضوعاً للمساءلة.
وهذه السلسلة جزء من مسار العمل في الاقتصاد السياسي للإصلاح، ضمن إطار مبادرة العراق في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي يقودها مدير مشروع المبادرة الدكتور ريناد منصور.