تُعدّ القيود المفروضة مؤخّراً من أعراض التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة وإيران. ولكن بينما تجد النخبة العراقية طرقاً للتحايل على تلك القيود فإن العراقيين من المواطنين العاديين هم الضحايا الفِعليّون.
من جديد، تُفرَض قيود مالية أميركية على العراق، وهي تهدف هذه المرة إلى تقييد بنوك وأفراد معينين من التداول في مزادات العملة اليومية للبنك المركزي العراقي. ويمكن أن يُعزى توقيت هذه التدابير الاقتصادية جزئياً إلى زيادة التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، وهي التوترات التي تدور رحاها مرة أخرى في الساحة العراقية. إلّا أنّ النخب المستهدفة بالعقوبات تجد طُرقاً للالتفاف عليها، في حين أن من يشعرون بالتأثير الحقيقي هم المواطنون العراقيون العاديون، الذين أصبحت حياتهم أكثر صعوبة لأن تقلبات العملة تجعل السلع الأساسية، مثل الغذاء والدواء، أكثر تكلفة وأقل توفّراً.
ما الذي حدث؟
تستخدم بنوك مثل مصرف آسيا الإسلامي والشرق الأوسط ومصرف الأنصاري الإسلامي ومصرف القابض الإسلامي منذ فترة طويلة مزاد البنك المركزي العراقي اليومي للعملة للحصول على الدولار الأميريكي وغسل الأموال. وفي الواقع، اعترف محافظ البنك المركزي العراقي ذات مرة بأن غالبية الأموال تذهب إلى دول مجاورة مثل إيران عبر التحويلات الإلكترونية، وغالباً ما يكون ذلك لقاء فواتير مزيفة. وتدعم هذه البنوك أيضاً شخصيات سياسية وهي راسخة بعمق وسط النخبة السياسية العراقية والفصائل المسلحة، وكان بعض الشركاء فيها من بين أهداف العقوبات الأميركية في الماضي.
وفي سياق مجموعة أوسع من المطالب التي تقدّمت بها واشنطن، بدأ البنك المركزي العراقي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 بحظر العديد من هذه البنوك من التعامل بالدولار الأميركي. وزادت قوات الأمن من الضغط من خلال اعتقال أو تغريم الموظفين في مكاتب صرف العملات التي تبيع بأسعار السوق السوداء، ما أدى إلى توقّف غالبية مكاتب الصرافة عن بيع الدولار الأميركي.
وكان لهذه القيود تأثير كبير: في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، كان العراق يبيع ما يصل إلى 260 مليون دولار يومياً، لكن هذا الرقم انخفض إلى حوالي 43 مليون دولار بحلول كانون الثاني/ يناير 2023.
لماذا الآن؟
كانت مزادات العملة هذه ملاذاً للمعاملات المالية غير المشروعة لأكثر من عقد من الزمن، فلماذا قررت الولايات المتحدة تضييق الخناق الآن؟ يرى بعض الخبراء أن القيود مرتبطة بانضمام العراق إلى النظام المصرفي الإلكتروني الدولي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022. لكن تعريض الإجراءات المالية العراقية للتدقيق الدولي كشَفَ أيضاً عن معاملات مرتبطة بشركات سمسرة تابعة لإيران تحوِّل الأموال إلى إيران أو حلفائها في جميع أنحاء المنطقة، مما أعاد إشعال فتيل النزاع الأميركي الإيراني. وفي وقت مبكر من عام 2018، ذكرت الولايات المتحدة أن بعض البنوك العراقية كانت مرتبطة بأطراف حوّلت الأموال إلى إيران أو لصالح إيران في جميع أنحاء المنطقة، وهددت بفرض عقوبات منذ عام 2020.
أما الجانب السياسي لهذه القيود الجديدة فله صلة بالديناميات الناشئة في بغداد. وعلى العكس من سلفه، فإن رئيس الوزراء العراقي الجديد، محمد شيّاع السوداني، يحظى في المقام الأول بدعم شبكة من الزعماء الشيعة، وبعضهم ممّن تصنّفُهم الولايات المتحدة كإرهابيين وحلفاء لإيران. لذلك تُعبّر واشنطن عدم ارتياحها من خلال استعراض عضلاتها الاقتصادية مُحذِّرةً بغداد من الانجراف بعيداً في الاتجاه الخاطئ.
الشعب العراقي هو الضحية في نهاية المطاف
سرعان ما وجدت النخب العراقية طُرقاً للالتفاف على هذه القيود، ولم تمنع عرقلةُ التعاملات الدولية تهريبَ معظم الأموال إلى البلدان المجاورة، سواء من خلال مكاتب الصرافة أو نقداً عبر حدود العراق. وعلى رغم تهديدات الأجهزة الأمنية، تُواصِل مكاتب الصرافة في بغداد، بدعم من النخب والأحزاب السياسية، شراء الدولار الأميركي نيابة عن أولئك النخبة. فمكاتب الصرافة ليست سوى جزء واحد من منظومة معقدة – بما في ذلك العقود الحكومية العامة ونقاط التفتيش الحدودية والهيئات الرسمية الأخرى – التي تساعد في تمويل هذه الأحزاب السياسية وداعميها بما يصل إلى 300 مليون دولار في اليوم.
وبدلاً من تحقيق الأهداف المرجوّة، فإن غياب استراتيجية شاملة يعني أن هذه القيود الأميركية أثَّرت على الحياة اليومية للمواطنين العراقيين من خلال رفع أسعار الصرف، ما أدّى إلى اندلاع احتجاجات. وفي حين يتقاضى معظم العراقيين أجورهم بالدينار العراقي، يُسعَّر العديد من السلع الأساسية على أساس قيمة الدولار الأميركي، ما يجعلها بعيدةً عن متناول الكثير من الناس لارتفاع أسعارها.
وفي قطاع الصحة، ذكر مسؤولون أنّ تقلبات العملة جعلت من المستحيل تنظيم أسعار الأدوية، فقد أجبر ازدياد التكلفة الناسَ على البحث عن أدوية مقلَّدة أو منتهية الصلاحية بأسعار أرخص، ما يُعرّض صحتهم لخطر كبير.
كما أثرّت الإيرادات المحدودة بالدينار العراقي وارتفاع أسعار المواد بالدولار الأميركي على سُبُل عيش العديد من المزارعين، ما أجبر 3000 مزرعة دواجن على الإغلاق. ولتلبية الطلب، سيضطر العراق قريباً إلى استيراد المزيد من اللحوم والخضروات بأسعار أعلى.
لكن هذه التقلبات لا تؤثر على الجميع بالتساوي، وفي آذار/ مارس 2023، أُجبِر المواطن العراقي العادي على دفع سعر السوق السوداء للدولار الأميركي وهو سعر أعلى من السعر الرسمي بأكثر من 17.5 في المئة. وفي الوقت نفسه، تمكنت النخب من الوصول إلى مزاد العملة في البنك المركزي العراقي عبر بنوكها ومكاتب الصرافة، ما مكَّنها من شراء الدولار الأميركي بالأسعار الرسمية مع الإبقاء على الأسعار المتضخمة في السوق السوداء.
إنما يدلّ هذا على قدرة النخب السياسية العراقية على التحايل على القيود والاستفادة منها. يجب أن تستند أي عقوبات مستقبلية على فهم متعمّق للديناميات السياسية المعقدة في العراق، وإلاّ فإنها ستضرُّ في المقام الأول من هم أكثر هشاشةً، في حين تُفلِتُ الأهداف المقصودة من دون أن يمسّها سوء إلى حدّ كبير.
هذه المقالة جزء من سلسلة مقالات ينشرها تشاتام هاوس وتهدف إلى تقديم رؤى متعمقة عن المجريات الداخلية للحكومة العراقية وتقييم ما يمكن للتطورات الأخيرة – المعلنة وتلك التي وراء الكواليس – أن تكشف عنه بشأن آفاق الوصول إلى دولة عراقية أكثر استقراراً وازدهاراً وخضوعاً للمساءلة.
وهذه السلسلة جزء من مسار العمل في الاقتصاد السياسي للإصلاح، ضمن إطار مبادرة العراق في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي يقودها مدير مشروع المبادرة الدكتور ريناد منصور.