بعد توقيع اتفاقيات خفض التصعيد في العديد من المناطق في سوريا، يتطلّع المجتمع الدولي والائتلاف المناهض لتنظيم داعش، ولا سيما روسيا، إلى طرد داعش من المناطق التي تسيطر عليها في شرق سوريا، وخصوصاً محافظة دير الزور – المعقل الباقي للتنظيم في سوريا. إلاّ أنه من المرجّح أن تتسبب السياسات التي يتبعها التحالف الدولي وروسيا لطرد التنظيم باستمرار الصراع وعدم الاستقرار في دير الزور بعد هزيمة داعش.
عودة النظام السوري
قبل بدء معركة دير الزور، توصلت روسيا والولايات المتحدة إلى ترتيب يقسم المحافظة إلى منطقتين، بحيث تكون المنطقة الواقعة جنوب نهر الفرات تحت سيطرة النظام وحلفائه الروس، فيما تكون المنطقة إلى شمال النهر، أو "شرقي الفرات" كما يطلق عليها البعض، تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهي الحليف الأبرز للولايات المتحدة. وقد قامت قسد، ومن خلال اتفاق أكيرشي الذي وُقِّع في 20 حزيران / يونيو، بتسليم ريف الرقة الشرقي والجنوبي لقوات النظام لكي يتمكن من استخدامها لاحقاً في معركة طرد داعش من دير الزور. وقد تمكِّن النظام من التقدم إلى المناطق الواقعة جنوب النهر وكسر الحصار المفروض على قواته منذ أكثر من ثلاث سنوات في المنطقة الغربية من مدينة دير الزور بدعم روسي والاستيلاء على كلٍّ من ريف المحافظة الغربي وكذلك الرقة، وهو يحاول الآن التوسع شرقاً إلى داخل المدينة.
تشمل المناطق الواقعة جنوب النهر أهم المراكز الحضرية في المحافظة بما فيها مدينة دير الزور والبوكمال والميادين والعشارة والقورية والموحسن والخُريطة التي تضم الجزء الأكبر من سكان المنطقة، والأهم من ذلك، أكثر المناطق تمرداً منذ بدء الثورة في عام 2011. ولا يزال سكان دير الزور يرون النظام عدواً رئيسياً لهم، ويتساءلون كيف يمكن للنظام نفسه الذي قتل آلاف السوريين، ودمّر ديارهم، وسبّب نزوحهم، أن يحقق الاستقرار للمنطقة. وتُجبر عودة النظام إلى هذه المناطق شريحة كبيرة من السكان تعتبر نفسها في معسكر المعارضة على البقاء بعيداً خوفا من الاعتقال والانتقام، على الرغم من أن الفصائل المناوئة للنظام لا تزال تعمل هناك.
تهميش الجيش السوري الحر
إن سياسة أمريكا الخاصة بدير الزور، وخاصة اعتمادها على قوات سوريا الديمقراطية وإصرارها على استبعاد الفصائل العسكرية التابعة للجيش السوري الحر، هي أحد العوامل التي يرجّح أن تستمر في زعزعة استقرار المحافظة. وبعد سنوات من دعم هذه الفصائل استعداداً لمعركة دير الزور، تخلّت الولايات المتحدة عن حلفائها في البادية السورية (الصحراء الشرقية). كما هددت بقطع الدعم عن هذه الفصائل إذا لم تتوقف عن محاربة النظام وطالبتها بالانسحاب إلى الأردن وترك مناطق سيطرتها في البادية السورية وريف السويداء الشرقي لقوات النظام. وقد أدى ذلك إلى القضاء على أي أمل في أن تتقدم هذه الفصائل من الجنوب – وهو الخيار المفضل للتقدم نحو المحافظة وهو محطّ إجماع بين فصائل دير الزور المحلية كجبهة عسكرية مثالية للتقدم وتحرير المحافظة، وقطع دابر النظام ومنع عودته.
لكن الولايات المتحدة وجّهت إنذاراً للفصائل المحلية التي كانت تدعمها سابقاً في دير الزور، وأبرزها جيش مغاوير الثورة، وجيش أسود الشرقية، وقوات النخبة، وكان مفاد هذا الإنذار: إما المشاركة في معركة تحرير دير الزور تحت مظلة قوات سوريا الديمقراطية أو الاستبعاد تماماً.
رفضت كل من هذه الفصائل المشاركة في المعركة تحت مظلة قسد لأسباب مختلفة، ولكنها فعلت ذلك بشكل أساسيّ بسبب تسليم قسج لعدة مناطق فى جنوب شرق الرقة إلى النظام الذي تربطها به علاقة غامضة. كما أن الانتهاكات التي ارتُكبت ضد العرب، بما في ذلك التهجير القسري والاعتقالات والقتل، مثل تلك التي وقعت في الرقة والحسكة، فضلاً عن الخلافات الوطنية ودعوات قسد إلى الفيدرالية، والتي يعتبرها الكثيرون الخطوة الأولى للتقسيم في سوريا، هي أيضاً عوامل مهمة. وطلبت فصائل دير الزور المحلية خوضَ المعركة بنفسها، ثم طلبت تسليمها جبهات منفصلة بعيداً عن قسد، ولكن الولايات المتحدة رفضت هذه المطالب بشكل قاطع.
لذلك فإن استثناء الفصائل العسكرية المحلية التي يُجمِعُ عليها سكان دير الزور، على الرغم من قدرتها على القتال، سوف يتسبّب بأزمة. وقد لا تتضح معالم الأزمة إلا بعد طرد داعش، ولكنها ستأتي بلا شك متجسّدةً في رفض شعبي لوجود قوات غريبة عن المنطقة. وتضع الجماعات المحلية في الوقت الحالي مسألة اختلافاتها الأيديولوجية والوطنية والسياسية مع قسد جانباً إلى حين إبعاد داعش، ولكنها قد تشكِّل في وقت لاحق تحالفات مع القبائل العربية والفصائل المُبعدة لدفع قسد إلى الخروج من هذه المناطق إذا ما سنحت الفرصة.
تجاهل ديناميات المواطن المحلي
يرجع رفض الفصائل العسكرية المحلية العمل تحت راية قسد إلى رفض الأخيرة ومجلس حُكمِها، المجلس الديمقراطي السوري، العمل مع القوى السياسية والمدنية الأخرى التى شكلها أهالي المحافظة.
على سبيل المثال، جرى الإعلان مؤخراً عن تشكيل مجلس محافظة منتخب محلياً في دير الزور لتولّي العمليات اليومية داخل المحافظة بعد طرد داعش. ومع ذلك، عقد المجلس الديمقراطي السوري مؤتمراً منفصلاً وأعلن انتخاب المجلس المدني في دير الزور دون محاولة إشراك سكان المحافظة في إدارة النصف الشمالي منها (سيكون النصف الجنوبي من المدينة تحت سيطرة النظام).
يمكن أن تكون معالجة الإرث الإيديولوجي لداعش، والذي انتشر في المجتمع المحلي خلال سنوات سيطرة التنظيم على المحافظة، عاملاً معزّزاً للاستقرار في حال كانت جزءاً من خطط واعية لإعادة التأهيل الاجتماعي والديني لأولئك الذين تأثروا بحملة داعش الدعائية، والذين لم تتلطّخ أيديهم بالدماء. ومع ذلك، إذا استمرت أطراف النزاع في نهج القضاء على داعش من خلال التدابير الأمنية والعسكرية فقطـ، مثل عمليات القتل والاعتقالات، فإن ذلك سيفتح باباً آخر للنزاع ويخلق ضحايا جدداً سيعيدون تدوير أيديولوجية التنظيم. وهذا بدوره سيهيّئ بيئة مؤاتية لعودة التنظيمات المتطرفة ذات العقائد الإيديولوجية المشابهة والتي تسعى إلى الانتقام. إن هذه العوامل مجتمعة لا تبشِّر بالخير بالنسبة للاستقرار في دير الزور. وبدلاً من ذلك، فإنها تهدد باحتجاز المدينة كرهينة للنزاع إلى ما لا نهاية.